رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى البدء كانت الأخلاق




يُعلى الإسلام كثيرًا من شأن الأخلاق، فهو ليس مذهبًا اجتماعيًا أو عقيدة سياسية، بل فى جوهره هو الأخلاق.. ثم الأخلاق.. ثم الأخلاق.. إنه دين الرحمة الذى جاء ليخاطب الناس.. كل الناس.. عربهم وعجمهم.. داعيًا إياهم إلى طريق الحق، بلا غصب أو إكراه، هو دين التسامح الذى يرفض أن يمارس أحد القمع باسمه، أو يفرضه بالقوة على الناس.. فما كانت تلك أبدًا رسالته.. إنها رسالة الحب.. ومخاطبة الناس بالتى هى أحسن.
الإسلام موجود منذ بدء الخليقة، فقد كان آدم مسلمًا، إلا أن النبى الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، فى بعثته كان مجددًا لهذا الدين فى الواقع، والنبوة هنا كانت هى العنصر الأساسى فى هذا الإحياء، لأنها فصّلت روح الدين ولم تقف فقط عند أوامره، فهضم الناس الدين واستوعبوه وكان إليهم أقرب، فهموا الدين بأنفسهم دون كهنة وطلاسم، لم يحتاجوا إلى معجزات كتلك التى أرسلها الله مع موسى.
فقد كانت روح الدين معجزة سيد الخلق أجمعين، فدخل الإسلام فى أعماقهم، وتحول إلى قوة محركة.. إلى موجّه لحياة الإنسان، لم يأتِ الإسلام ليقيم دولة بل جاء ليصبغ قلوب البشر بحركة الإسلام.
الإسلام الحقيقى فى الكتاب والسنة لم يتحدث عن القوميات والحدود، لم يبشّر بدولة الخلافة، بل جاء ليبعث فى الإنسان روح السلام، جاء تصحيحًا لمسار الإنسان وليس كمذهب اجتماعى تقليدى للبشرية.
إن اختزال الإسلام فى أنماط ومذاهب اجتماعية وثقافية، وفى عدد من الأفكار السياسية والعسكرية، سلب من الدين روحه التى بُعث بها من الله، فسلبت من الإنسان عقله وإخلاصه وخلاصه، وضاع الإنسان بين سندان التقليد الأعمى، ومطرقة استخدام الدين فى السياسة، وكلاهما لا يتماشيان مع روح الإسلام التى جاء بها أنبياء الله.
إن إحياء روح الدين فى نفوس المسلمين كفيل بأن يغيّر حالهم بتلقائية، وسنجد الحضارة والأمة عندما نجد روح الدين فى نفوس البشر، لأن روح الدين فى الانتقال من الأنانية الإنسانية إلى حلاوة الإيمان التى تزيل الغِل والأحقاد.
والسؤال: هل فكرت يومًا ما هى أهداف رسالة النبى صلى الله عليه وسلم؟.. فنحن نعرف جميعًا حديث النبى «بنى الإسلام على خمس»، لكن ما هى الأهداف الرئيسية لرسالة الإسلام؟
هناك ثلاث آيات وأحاديث جمعت مقاصد الرسالة المحمدية، يقول تعالى «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، تحدد الآية أن الرحمة بالبشرية كلها وليس المسلمين فقط.. هى سر الرسالة المحمدية.
وفى قوله تعالى «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»، والتزكية معناها أنه يُطهر أخلاقكم ويُحسنها، ووضع الأخلاق قبل تعليم الكتاب والحكمة.
إن أهداف ومقاصد رسالة النبى، صلى الله عليه وسلم، تدور كلها حول الأخلاق، وليس من المبالغة أن نقول إنها المقصد الأساسى من الرسالة المحمدية.. وقد ورد فى الحديث عن أبى هريرة، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
هذه هى الحقيقة التى يجب أن ندركها، وأن نضعها نُصب أعيننا دائمًا، حتى لا نحيد عن رسالة الإسلام الحقيقية، وهى الأخلاق.. فى العبادة.. فى معاملاتنا.. فى كل أمور حياتنا لا بد أن تكون الأخلاق حاضرة.. لا ينبغى بأى حال تهميشها، والتعامل معها على أنها شىء ثانوى لا ضرر من تركه.
ولو لم يكن الأمر كذلك، لما استحوذت الدعوة إلى مكارم الأخلاق على كل هذا الاهتمام من النبى، صلى الله عليه وسلم، ولما كان دائم التذكير لأصحابه، ونحن من بعدهم، بضرورة التحلى بحسن الخُلق.. فهل تعلم أن عدد الأحاديث النبوية المروية عن النبى ٦٠ ألف حديث بكل درجاته، من بينها ٢٠٠٠ حديث فى كل أحكام الشريعة؛ أى حوالى ٣٪ من الأحاديث، بينما ٩٧٪ من الأحاديث كلها أخلاق مرتبطة بالعقيدة.
فالأخلاق هى جوهر العقيدة، وكل عبادة فى الإسلام متعلقة بخُلق معين مرتبط بها، وكلما زاد فضل الخلق زادت قيمة العبادة المتعلقة به وزاد الثواب، فالثواب فى الإسلام على قدر نفع المجتمع، لذلك جاءت أحاديث حُسن الخُلق فى أعلى درجات الثواب، لأنها أهم فوائد الدين.
«ما من شىء أثقل فى ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذىء»، «أثقل ما يوضع فى الميزان يوم القيامة تقوى الله وحُسن الخلق»، «إن أحسن الناس إسلامًا أحسنهم خلقًا»، «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم».
«أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحُسن الخلق»، «أقربكم منى مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا الموطئون أكنافًا»، «كنا جلوسًا عند رسول الله، إذ جاءه أناس فقالوا: من أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ فقال النبى: أحسنهم أخلاقًا»، «ألا أخبركم بأحبكم إلىّ وأقربكم منىّ مجلسًا يوم القيامة؟ فأعادها مرتين أو ثلاثًا.. قالوا: بلى يارسول الله.. فقال: أحسنكم أخلاقًا»، «إن المؤمن ليدرك بحُسن خلقه درجة الصائم القائم»، «أنا زعيم (ضامن) بيت فى أعلى الجنة لمن حسن خلقه»، «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسطة الوجه وحسن الخلق».. وكان من دعاء النبى «اللهم اهدنى لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا أنت».