رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بطولات أكل العيش


لو كان الأمر بيدى لفرضت على كل مرشح لشغل وظيفة عليا أن يعد ميزانية شهرية لأسرته بمبلغ ألف ومائتى جنيه، وأن يعيش بهذا المبلغ لمدة 30 يومًا ويرى كيف عليه أن يأكل ويشرب ويستخدم وسائل المواصلات العامة ويدفع تكاليف العلاج ويشترى ملابس الأبناء ويدفع مصروفاتهم بما فيها مصروفات الدراسة وتكاليف الدروس الخصوصية وفواتير الكهرباء والمياه وإيجار السكن إذا كان مستأجرًا.. وغيرها.


وأن يكون شرطًا لشغله تلك الوظيفة إلى جانب اجتيازه دورات تدريبية متخصصة ومتقدمة تؤهله علميًا وعمليًا لمهمته الجديدة، أن يجتاز أيضا هذا الاختبار فى محاولة لتأهيله نفسيًا وشعوريًا بعدما يجرب كيف يعيش الغالبية العظمى من المواطنين المصريين، وإلى أى حد يجتهدون وأحيانًا أخرى يخترعون طرقًا للحياة فى ظل بطولات أكل العيش اليومية.

لقد جاءت الزيادة الهائلة فى أسعار كل شىء تقريبًا خلال الأشهر الأخيرة بالذات لتضاعف معاناة الغالبية الساحقة من المواطنين الذين لم يحصلوا بالمقابل على زيادة تذكر فى مستوى دخولهم، بل إن نسبة غير قليلة منهم قد ثبت دخلها أو حتى انخفض، إضافة إلى من فقدوا وظائفهم خلال السنوات الماضية التى شهدت تراجعًا فى أداء بعض القطاعات الاقتصادية وانهيارًا فى أداء قطاعات أخرى كانت تؤمن فرص العمل وتفتح أبواب الرزق لملايين الأسر المصرية التى لا تعرف الدولة تجاهها التزاما استقر وترسخ وأصبح من قبيل الحقوق المكتسبة للمواطنين حتى فى أعتى الدول الرأسمالية من قبيل التأمين الصحى الحقيقى والشامل، والتعليم المجانى وفقا لأحدث النظم وبأعلى معايير الجودة، وبدل البطالة فى إطار نظم محددة تتحمل الدول من خلالها مسئوليتها عن سوء الأداء الاقتصادى الذى يفترض أن يكون هدفه الأول خلق الوظائف فى القطاعات المختلفة «عام وخاص وتعاونى»، وفرض بيئة عمل عادلة تؤمن لكل من صاحب العمل والعامل حقوقهما، كما تلزمهما بواجباتهما تجاه بعضهما.

إن واجب الدولة قبل أن تعاير المواطن بجنيهات الدعم المعدودة التى تقدمها له وتدعى أنها سبب أزماتها، أن تحاسب نفسها عن سوء استخدام الموارد المحدودة، بطبعها، إلى حد الإهدار المتعمد أحيانا، وعن استشراء الفساد المالى والإدارى الذى يستنزف مقدرات الوطن، وسوء توظيف العنصر البشرى الذى يمكن النظر إليه من جانب باعتباره عبئًا، كما يمكن النظر إليه من جانب آخر أهم وأصدق باعتباره ثروة أو على الأقل طاقة معطلة بنسبة كبيرة، كل ذلك فى إطار غياب الرؤية الشاملة التى يتفرع عنها أهداف محددة بتوقيتات زمنية يمكن قياس مدى الإنجاز أو الإخفاق فى تحقيقها، ما يعنى أن النجاحات المحدودة التى تتحقق هنا أو هناك تظل عاجزة عن رسم صورة مكتملة يشعر معها المواطن بأنه يسير فى الاتجاه الصحيح وبالسرعة المطلوبة والتى تتناسب مع ما تملكه الدولة من مقومات، وتترجم معها أحلاما وطموحات يسمع عنها كثيرًا ولا يلمس منها فى الواقع إلا أقل القليل.

أعرف أن نسبة كبيرة من أغنياء الشعب المصرى لا تعلم ما يكفى عن المعاناة اليومية للأغلبية الساحقة من المصريين، وأعرف أيضًا أن تلك الفئة تضم كبار المسئولين بالدولة، لكن على الجميع أن يعرف قبل ذلك أن الحفاظ على السلم الاجتماعى وتجنب مخاطر الانفجار المجتمعى- لا قدر الله- يفرض أن يحس كل مقتدر فى هذا الوطن بوجع كل فقير لا يستطيع أن يدبر الاحتياجات الأساسية لبيته حتى وإن سار بين الناس يحسبونه غنيًا من التعفف.

إن ارتفاع معدلات التضخم إلى حد غير مسبوق مع انخفاض مستويات الدخل بشكل عام، عدا نسبة محدودة جدا من المواطنين، إنما يتزامن معه فى الوقت نفسه ازدياد معدلات البطالة إلى مستوى قياسى هى الأخرى، وهو ما يخلف أوضاعًا شديدة الخطورة تحتاج إلى حلول جذرية وأخرى عاجلة فى الأجلين الطويل والقصير، حلول تأخذ بأسباب الكفاءة الاقتصادية وتلتزم أيضا بمعايير العدالة الاجتماعية بحيث تتعلم من دروس الماضى الذى شهد قبل ٢٥ يناير تحقيق أعلى معدلات النمو - وليس التنمية- لكن فى الوقت ذاته شهد أسوأ طريقة لتوزيع العائد الذى استفادت من معظمه شريحة محدودة، ما أدى لاتساع مستمر للفجوة بين الأغنياء والفقراء وتآكل مطرد للطبقة الوسطى التى تمثل رمانة الميزان فى أى مجتمع.

إن العزلة الشعورية الموجودة بين معظم من هم فى مواقع السلطة والمسئولية وبين الغالبية العظمى من أبناء الشعب الذى يبدو وكأنه يعيش فى واد ومن يحكمونه فى واد آخر- يصعب معها تقديم حلول واقعية تبدأ بالفهم الصحيح لدور الدولة والاقتناع التام بأن تخليها عن مسئولياتها تجاه المواطنين، خاصة غير القادرين على مواجهة أعباء الحياة بمفردهم إنما يعقد المشكلات - الموروث منها والمستحدث- عوضًا عن أن يقدم لها الحلول المتاحة والممكنة، مع الاعتراف بصعوبتها.