رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العمل الأهلى وقضية التمويل الأجنبى


أكثر من ثلاثة شهور مضت منذ وافق مجلس النواب بصفة نهائية على قانون ينظم عمل الجمعيات والمؤسسات الأهلية، وذلك فى ٢٩ نوفمبر ٢٠١٦، ولا نعرف على وجه اليقين إلى أين وصل القانون، وهل أرسله مجلس النواب إلى رئيس الجمهورية الذى يملك إصداره أو إعادته للمداولة مرة أخرى وفقًا لصلاحياته الدستورية، أم أنه لا يزال حبيس الأدراج بالمجلس.

لكن المؤكد أن طريقة تمرير القانون والأجواء المصاحبة لها داخل قاعة المجلس وخارجها لم تكن مناسبة لإدارة نقاش جاد وعقلانى حول القضايا الخلافية من أجل الوصول إلى نقاط اتفاق تنتج تشريعًا جيدًا ومتوازنًا، بحيث يلتزم بضوابط الأمن القومى باعتبارها المحدد الأساسى والحاكم، وفى الوقت نفسه لا يُكبّل العمل الأهلى الرسمى الذى يعمل تحت سقف القانون ورقابة الجهات المختصة لصالح من يعمل خارج تلك المظلة فى إطار مبادرات فردية خيرية محدودة ومحمودة، أو من خلال نشاط منظم وكبير يقصد أصحابه العمل بعيدًا عن أعين الدولة.

القانون المنتظر أن يحل بديلًا للقانون ٨٤ لسنة ٢٠٠٢ بشأن تنظيم عمل الجمعيات والمؤسسات الأهلية، دعت الحاجة إليه أسباب موضوعية نتيجة للتطورات والتغيرات التى دخلت على بيئة العمل الأهلى خلال السنوات الماضية، غير أن العنصر الأساسى الذى طغى على تفكير من صاغ هذا القانون كان قضية التمويل الأجنبى وما صاحبها وأحاط بها من شبهات تأكد بعضها وظل معظمها يتردد دون نفى أو إثبات بالدليل القاطع، وهو ما أضرّ بسمعة العمل الأهلى ككل.

وإذا كانت الجمعيات والمؤسسات التى تحصل على تمويل أجنبى لا يتجاوز عددها الـ ٥٠٠ والتى تمثل حوالى ١% من الجمعيات والمؤسسات الأهلية المشهرة فى مصر، فإن الـ ٩٩% الأخرى قد تأثرت سلبًا وتضررت أنشطتها وتراجع الدعم الشعبى لها من جراء الصورة الذهنية الخاطئة التى تكونت لدى القطاع الأوسع من المواطنين عن العمل الأهلى بشكل عام، وهى صورة بنيت على أحكام خاطئة أخذت الكل بذنب البعض.

والأكيد أنه ليس فى صالح أحد أن يتم منع العمل الأهلى أو التضييق عليه، سواء الخيرى أو التنموى أو أيًا كانت ميادينه الواردة فى القانون، ذلك أن الدور الذى يقوم به إنما يشكل عند نسبة كبيرة من المواطنين بديلًا للدور الاجتماعى للدولة، المتراجع أحيانًا، والغائب بالكلية أحيانًا أخرى، والأرقام فى ذلك شديدة الدلالة ويكفى من بينها -كمثال وحيد- أن ما يقارب الـ 30% من الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين على مستوى الجمهورية تؤدى من قبل القطاع الأهلى.

الغريب أن هذا القانون الذى قدمه النائب عبدالهادى القصبى وأكثر من مائتى نائب تمت مناقشته وإقراره فى اللجنة المختصة التى يرأسها العضو نفسه، ثم فى الجلسة العامة، ثم راجعه قسم الفتوى والتشريع فى مجلس الدولة ليعود إلى مجلس النواب ليصدره بصفة نهائية، كل ذلك فى أيام معدودة ودون التدقيق فى الملاحظات المهمة التى قدمها نواب المعارضة أو المتخصصون فى العمل الأهلى، أو حتى الحكومة نفسها التى كانت لها اعتراضات على مشروع القانون.

ولا يعد التمويل الأجنبى للجمعيات والمؤسسات الأهلية أمرًا مستحدثًا، وإنما يعود إلى سبعينيات القرن الماضى، وينظم القانون طريقة الحصول على هذا التمويل ويحدد الشروط والإجراءات المطلوبة قبل الموافقة، ثم ينظم أوجه المراقبة بعد الحصول على تلك الأموال والتأكد من إنفاقها فى أغراضها وبالضوابط التى يحددها القانون، إلا أن ذلك لم يمنع أوجهًا عديدة للتحايل، بعضها يحتاج إلى تعديلات فى هذا القانون، والبعض الآخر فى حاجة إلى تفعيل قوانين أخرى، لأنها تتم خارج الإطار القانونى المنظم لعمل الجمعيات والمؤسسات الأهلية، لذلك فإننى أتمنى إذا ما عاد القانون للمناقشة فى مجلس النواب من جديد أن تكون الأغلبية قد تعلمت من أخطائها السابقة وأن تنتصر للمنطق الصحيح أيًا كان مصدره، وأن يكون ذلك أسلوب عمل، سواء فى هذا القانون أو غيره، بحيث نرتفع فوق مستوى التجاذبات السياسية انتصارًا للمواطن الذى يأمل من البرلمان الكثير، ولا يجد حتى الآن سوى أقل من القليل.

وفى مسألة التمويل الأجنبى للقطاع الأهلى بالذات، فإنه بالرغم من قناعاتى الذاتية التى ترفض هذا التمويل من حيث المبدأ، فإن هذا الرفض إنما يلزمنى أنا ومن يشاركنى نفس الرأى، أما ما يلزم الجميع فهو القانون الذى يضع قواعد عامة ومجردة، والذى أقترح أن ينص على أن تنحصر الجهة التى يرد إليها هذا التمويل الأجنبى فى الاتحاد العام للجمعيات والمؤسسات الأهلية، وهى جهة منتخبة لتمثل مظلة العمل الأهلى على مستوى الجمهورية، وأن يكون توزيع تلك المنح من خلالها، بحيث إذا افترضنا مثلًا أن دولة أجنبية أو مؤسسة دولية ترغب فى تقديم منحة لصالح تطوير شبكات مياه الشرب فى محافظات الصعيد، أو التوعية بالحقوق الدستورية، أو أى نشاط قانونى آخر، فإنها تحول تلك الأموال محددة مجال إنفاقها فى حساب الاتحاد العام الذى يعلن للجمعيات التى تعمل فى تلك الميادين، وفى النطاق الجغرافى المحدد، لتقدم مشروعات مقترحة للتنفيذ استفادة من هذا التمويل، ومن خلال آلية مشتركة للتنسيق والمتابعة بين الجهة المانحة والاتحاد العام والجمعيات والمؤسسات المتقدمة للحصول على التمويل ومعها الجهة الإدارية، يتم الاستقرار على الجمعية أو المؤسسة المستفيدة من المنحة التى تحصل بهذه الطريقة على الأموال، وتنفقها أيضًا، تحت سمع وبصر المجتمع، وتحت مظلة القانون.