رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فاتورة الدعم.. وفاتورة إلغائه


تحت شعارات براقة من نوعية ترشيد الدعم وإيصاله إلى مستحقيه، تسير الدولة باتجاه تحرير سعر السلع والخدمات الأساسية التى يستهلكها المواطن البسيط وغير القادر، أكثر ممن يستطيع التحمل، وهى الشريحة التى أصبحت اليوم نسبة محدودة جدًا من المجتمع، بل تتناقص باطراد.

وسواء كان هذا الطريق هو ما فرضه صندوق النقد الدولى الذى انسحقت أمامه إرادة المفاوض المصرى، أو كانت اختيارات الحكومات المتعاقبة منذ التحول الاقتصادى، الذى بدأ مع منتصف السبعينيات من القرن الماضى فى ظل غياب لرؤية واضحة أو الاتفاق على أهداف محددة، فقد وصلنا اليوم إلى الحد الذى تخطط فيه الحكومة، فى ظل عجز البرلمان عن القيام بواجباته الدستورية ومن بينها صنع السياسة العامة للدولة، وإقرار خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، تخطط لأن يدفع المواطن فواتير الكهرباء والمياه والغاز، ويحصل على المواد التموينية، وعلى السولار والبنزين، ويركب القطارات ومترو الأنفاق وباقى وسائل النقل العام، ومستقبلًا أيضًا – وإن لم يعلن ذلك- رغيف الخبز المدعم، كل ذلك وغيره بالسعر الذى تحدده السوق المنفلتة، وفقًا لآليات العرض والطلب.

وفى هذا السياق يتم تمرير جملة من الأكاذيب أحيانًا، والسكوت عن عدد من الحقائق أحيانًا أخرى، ولعل أهمها:

1- أن التحول إلى الدعم النقدى أكذوبة كبرى فى ظل عدم وجود قواعد بيانات مدققة، تحدث دوريًا، عن مستحقى الدعم بأنواعه، ومع غياب دور الدولة فى ضبط الأسواق، وتوفير السلع والخدمات بأسعارها الحقيقية، ما يعنى أن أى مقابل مادى سوف يحصل عليه المواطن، ستتم ترجمته إلى زيادة أكبر فى معدلات التضخم، الأمر الذى يدفع معه الجميع فاتورة تضاعف الأسعار عندما تحصل نسبة منهم على بضعة جنيهات، لا تسمن ولا تغنى من جوع، والمثال الواضح على ذلك اليوم هو المقارنة بين حصول المواطن على حصة محددة من السلع التموينية، التى كانت تكفى استهلاكه وتفيض من الزيت والسكر والأرز، وبين الحال اليوم عندما تم تحديد مبلغ الدعم نقدا وترك له حرية الحصول على ما يريد بهذه الجنيهات الـ21 والتى لم تعد تكفى للحصول على شىء ذى قيمة تذكر.

2- أن الحكومة تحمل المواطن فاتورة الفساد وسوء الإدارة وإهدار الموارد، ما يترتب عليه جملة من الآثار السلبية، من بينها أن ترتفع تكلفة السلع والخدمات التى تقدم للمواطن عن سعرها الحقيقى الذى يمكن أن ينخفض كثيرًا إذا طبقنا معايير الرشادة الاقتصادية.

3- أن الدعم ليس حكرًا على الدول الاشتراكية، بل إن أعتى النظم الرأسمالية تقدم لمواطنيها المستحقين أشكالا عديدة للدعم، من بينها بدل البطالة، والضمان الاجتماعي، وتحمل مصروفات التعليم، والتأمين الصحى، الذى يصل معه الحال فى دولة مثل بريطانيا إلى عدم وجود خدمات صحية خاصة، كل ذلك مع ارتفاع مستوى الدخل العام للمواطنين، ووجود منافسة حقيقية، وغياب الممارسات الاحتكارية وقوة أجهزة حماية المستهلك، وانخفاض معدلات الفساد إلى الحدود الدنيا.

4- أن واحدًا من الأدوار الأساسية للدولة يغيب، وفكرة الدولة نفسها تتراجع إذا لم تتحمل مسئولياتها تجاه المواطن الضعيف أو غير القادر على مواجهة أعباء الحياة دون أن تقدم له الدولة يد العون، كما أن الفاتورة السياسية والاجتماعية بل والأمنية أيضًا فى هذه الحالة ستكون بالتأكيد أكبر بكثير من الفاتورة الاقتصادية للدعم، خاصة عندما يكون رشيدًا ويصل فعلا لمستحقيه.

5- أن شكوى الحكومة من تضاعف فاتورة الدعم بعد تحرير سعر الصرف يجب أن يقابلها السؤال المنطقى عن المسئول عن الفشل الاقتصادى المتراكم والمتزايد أيضًا، الذى أوصلنا إلى هذه الحال، فالحكومة وليس المواطن هى من اتبعت هذه السياسات ثم اتخذت فى النهاية هذه القرارات التى سوقت لها أحيانا على أنها ضرورة حتمية، وأحيانا أخرى على أنها اختيارات حرة تخدم خطة الإصلاح الاقتصادى، وهى نفسها الحكومة التى يجب محاسبتها على الاستخدام المضلل للأرقام إلى حد الكذب العمد، فمثلًا عندما تحدثك عن ارتفاع كلفة دعم رغيف الخبز إلى ما يقارب الضعف، فإنها لن تذكر أبدًا انخفاض أسعار البترول إلى ما يزيد على النصف.

٦- أن التضليل المتعمد للرأى العام بأن تسوق الحكومة لتوجهاتها الاقتصادية الخاطئة على أنها مطبقة فى الدول الناجحة، يغفل حقيقة أنها تأخذ من كل منظومة ما يخدم وجهة نظرها، وتغض الطرف عن غيره، وكأن هناك اليوم من وظيفتهم الوحيدة تبرير الفشل بترويج أنه موجود فى نظم أخرى تقلد منها أحيانًا ما يجب أن تتجنبه وتترك ما يمكن أن تتعلم منه أو تستفيد.

7- غياب دور الدولة فى خدمات أساسية، أصبحت الأسر المصرية تدفع معظم دخلها، وأحيانًا أخرى تستدين أو تبيع أصولًا تملكها من أجل الوفاء بها، والمثالان الأوضح على ذلك هما التعليم والصحة اللذان توفر لهما الدولة موازنات غير دستورية وغير عادلة وغير إنسانية، ثم هى تسىء استخدامها فيضطر المواطن فى النهاية إلى أن يعلم أبناءه فى الدرس الخصوصى أو المدرسة الخاصة، وأن يعالج فى العيادة الخصوصى أو المستشفى الخاص، ويدفع فى ذلك غالبًا فوق طاقته أو قدرته على الاحتمال، وليس أمامه بديل آخر حقيقى تقدمه المدرسة أو المستشفى الحكومى.

إن الغالبية العظمى من المواطنين اليوم باتت تطلب حد الكفاف وليس الكفاية، وإن اللغة التى يتحدثها المسئولون، والسياسات التى تنتهجها الدولة لا تبدو مدركة للمخاطر الحقيقية التى يمكن أن تهدد السلم الاجتماعى إذا ما استمر الحال على ما هو عليه من إجراءات متوحشة تجاه الفئات الضعيفة أو غير القادرة على توفير احتياجاتها الضرورية، وإن تهرب الدولة من التزاماتها الأساسية تجاه المواطنين المستحقين للدعم ليس حلًا، بل إنه تعقيد للمشكلة.