رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الترامبية» عندما تطوعها البراجماتية الأمريكية


بعكس ما ذهب إليه الكثير من المراقبين، فإن فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية، إنما يعكس الحالة المزاجية الحادة للناخب الأمريكى فى هذه اللحظة التاريخية المرتبكة، أكثر ما يشكل تغيرًا حقيقيًا فى الاستراتيجية الأمريكية المستقرة على ثوابت تمثل الاتجاه العام للدولة، سواء فى إدارة الملفات الداخلية أو حتى فى علاقاتها الدولية. ولا يعنى ذلك أنه لا توجد تغيرات نوعية تدخل على هذه الاستراتيجية من فترة لأخرى، لكنها تأتى استجابة لتقديرات المؤسسات المتحكمة فى صناعة القرار أكثر كثيرًا مما تتأثر بتغير الأفراد، أو حتى بتناوب الحزبين الكبيرين على السلطة فى البيت الأبيض أو الكونجرس، حيث يبدو فى النهاية وكأن كلاهما جناحان لحزب واحد.. وسوف يرى المتابعون كيف يتحول ترامب المرشح إلى ترامب آخر جديد عقب تسلمه مقاليد الحكم يوم الجمعة المقبل.

وأتذكر أنه منذ أكثر من حوالى ثمانى سنوات عندما تحدث البعض عن الانقلاب السياسى الذى سوف يحدثه وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض، ثم ارتفع سقف التوقعات -لدى الجانب العربى بالذات- عقب خطابه الشهير الموجه إلى العالم الإسلامى من جامعة القاهرة، أتذكر حينها أننى كتبت عن قوة الآلة الأمريكية القادرة على تطويع أوباما، وتحويله إلى مجرد ترس داخل الماكينة العملاقة التى تستطيع أن تفرمه إذ هو لم يدُّر معها فى نفس الاتجاه، وهو ما كان فى نهاية الأمر، بصرف النظر عن بعض الرتوش فى عدد من القضايا، التى كان التغير فى التعاطى معها متعلقًا بالمظهر أكثر مما يمسّ الجوهر.

إن السلطات الواسعة جدًا التى يمنحها الدستور الأمريكى لرئيس الدولة، يمكن فقط أن تحدث تغيرًا حقيقيًا فى المسار الحالى للدولة الأمريكية إذا ما أتت صناديق الانتخابات برئيس يمثل فكرة ملهمة، تستطيع أن تحشد الشعب خلفها؛ بحيث تمنحه هو نفسه القوة اللازمة للانتصار -بمساعدة الرأى العام الضاغط- فى معركة علاقات القوى التى تحكم النظام الأمريكي، وهى عملية يجب أن تتخطى بالتأكيد محاولة ترميم الصورة الذهنية لـ«الحلم الأمريكى» بأن يحكم أمريكا رجل أسود من أصول إفريقية مسلمة، أو تجربة الخيار العكسى مع رجل أبيض يفاخر بعنصريته، وقد استطاع أن يقدم خلال حملته الانتخابية خطابا شيفونيا يدغدغ مشاعر الغالبية من الناخبين الأمريكيين.

ويبدو أن فكرة من هذا النوع لا تزال بعيدة المنال بالنسبة للمعطيات المتاحة الآن فى المعادلة الأمريكية، حتى مع ظهور مؤشرات قوية على أن الإمبراطورية الأمريكية قد انتقلت من مرحلة الصعود إلى منحنى الهبوط بفعل أسباب داخلية، وأخرى مرتبطة بظهور أقطاب جدد قادرين على إنهاء حالة الانفراد الأمريكى بقيادة النظام الدولي، والتى سادت خلالها محاولات الهيمنة وفرض النموذج الخاص بها باتباع سياسات امبريالية، وأحيانًا دموية وغير أخلاقية، بل ولا حتى إنسانية، كانت المنطقة العربية الأكثر معاناة معها.. من هنا فإننى مازلت على قناعة راسخة بأن تغير التعاطى الأمريكى مع الملفات الدولية فى هذه المنطقة الملتهبة من العالم والتى نعيش بها، إنما يحكمه بناء وتطور قدراتنا الذاتية على الصمود والمواجهة، والانتصار فى معاركنا الأساسية على طريق بناء الدول الوطنية العصرية الحديثة القادرة على الاستجابة لطموحات وتطلعات الأمة مع مراعاة احتياجات الشعوب فى كل دولة عربية على حدة، مع التأكيد على أن خلافات الأنظمة الحاكمة، وصراعات المصالح خلال اللحظة الحالية يجب أن تتوارى خجلًا خلف وحدة المصير التى تجمعنا، وقد صدق الإمام الشافعى حين قال: «ما حكَّ جلدك مثل ظفرك.. فتول أنت جميع أمرك».