رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الاستعصاء على التغيير بالانتخابات

 

فى معظم الأنظمة السياسية فى العالم؛ تشكّل الانتخابات النيابية والرئاسية آلية سلمية للمشاركة الشعبية فى السلطة فى البلدان والدول المستقرة، كما أنها فى ظروف التأزم تصبح مَخرجًا من الأزمات باتجاه التغيير السلمى واستعادة الاستقرار. بيد أنّ هذا الأمر لا ينطبق على واقع معظم الدول العربية، خاصة دول الاضطراب أو عدم الاستقرار. والشاهد الحاضر على ذلك الانتخابات فى ليبيا التى صار مؤكدًا أنها لن تجرى فى موعدها. والطريف أنّ معارضى إجرائها أو دعاة تأجيلها هم أولئك الذين كان ينبغى أن يكونوا دُعاة الإجراء العاجل «المجلس الرئاسى ورئيس الحكومة»! أمّا مجلس النواب الممدِّد لنفسه فهو منقسم الذهن والتصرف بين الإجراء وعدمه. وبخاصة أنّ رئيسه مرشح هو نفسه لمنصب الرئاسة ولغيره إذا تعذر!

كل بلدان الاضطراب أو الثوران العربى، تظل ثائرة أو مضطربة، ومع أن الجميع يقولون بالانتخابات مَخرجًا؛ فهى إما تؤجل، وإذا جرت فإن غير الفائزين فيها يُنكرون نتائجها ويعدونها مزورة، وهذا الذى حدث فى العراق، أما فى سوريا فإن الانتخابات بشقيها الرئاسى والنيابى تشكل شاهدًا على استعصاء التغيير واستمرار التأزم. وحتى فى تونس، وهى البلد الثورى الوحيد الذى انتظمت فيه الانتخابات، قرر رئيسه فجأة إيقاف النظام السياسى وانتهاج مسارٍ جديدٍ ما اتضحت خطواته تمامًا بعد عدة أشهرٍ!

باستثناء مصر التى ما دخلت عليها القرارات الدولية ولله الحمد؛ فإنّ الدوليين على العموم- ومن خلال مجلس الأمن والممثلين للأمين العام للأمم المتحدة- هم الذين حددوا المسارات أو ساروا فيها، سواء استطاعوا ذلك أم لم يستطيعوا. ولكى يصبح ذلك ممكنًا فإنهم عملوا على إحداث «توافق» سياسى تقاسُمى بين الأطراف السائدة بعد الثورات أو الاضطرابات. ومن خلال التوافق أو ما يشبهه اصطنعوا مفوضية للانتخابات؛ لتكون أداة محايدة فى الإجراء، ويجرى الاحتكام إلى المحكمة الدستورية فى حالات الاختلاف. بيد أن الأطراف المسيطرة بالعراق أو قوى الأمر الواقع، سيطرت أيضًا على مفوضية الانتخابات، وفازت فوزًا ساحقًا فى انتخابات عام ٢٠١٨، وما طال الأمر من بعد حتى ثار جمهور الشباب على قوى السيطرة وحكومة عادل عبدالمهدى الضعيفة. وبعد أشهرٍ من الاضطراب العنيف بالشارع وسقوط مئات القتلى سلم المسيطرون بتشكيل حكومة محايدة وإجراء انتخابات مبكرة، وجرت بالفعل وبإشراف مفوضية الانتخابات، فسقطت كل الأحزاب الفائزة أو أبرزها عام ٢٠١٨. ومع أن الثوار لم يفوزوا، بل فاز حزب مقتدى الصدر «وهو فى الأصل من القوى الحاكمة»؛ فإن معظم الآخرين فى المشهد عدّ الانتخابات مزورة، وتظاهر بصخب ولا يزال، رغم إطباق كل المراقبين على جدية الانتخابات ونتائجها!

إن الفرق بين العراق وليبيا؛ أن المسيطرين فى ليبيا- رغم انقسامهم بين شرق وغرب وجنوب- استطاعوا إيقاف العملية قبل إجراء الانتخابات، وقد بادروا إلى ذلك فى الغرب الليبى. وعلى أى حال فإن صعوبة المسألة تبينت عندما ترشح لمنصب الرئاسة زهاء سبع وتسعين شخصية، بينهم كل الموجودين فى المشهد تقريبًا، بل وإلى حضور مفاجئ مجددًا لكثيرين، منهم سيف الإسلام القذافى، وهو ابن أبيه بالفعل. وهكذا فقد تجرأوا أكثر من قوى الأمر الواقع بالعراق، ودعوا إلى تأجيل الانتخابات، وحجتهم فى ذلك مثل حجة العراقيين: المفوضية العامة للانتخابات التى اتهموها بالانحياز أو التزوير وقبل أن تجرى العملية الانتخابية!

إنّ عدم القبول بالانتخابات أو بنتائجها هو ظاهرة متكررة ودائمة من قوى الأمر الواقع أو القوى المسيطرة، إن لم تكن مسيطرة من البداية وإلى النهاية، مثلما يحدث فى سوريا والجزائر. والذى يدعو إلى التشاؤم أن هذا الأمر يتمدد ولا ينكمش.

ومن مظاهر التمدد تنكرًا للانتخابات الأزمة اللبنانية المتطاولة. فقد ثار اللبنانيون متأخرين، أى عام ٢٠١٩ وليس عام ٢٠١١، لكن ثورتهم العارمة ما كانت لها نتائج ثورة العراقيين؛ إذ لم يستطيعوا الإرغام على انتخابات مبكرة. بيد أن كل الثائرين وضعوا آمالهم فى الانتخابات من أجل التغيير. وأعانهم فى ذلك الدوليون، وفى طليعتهم الأمريكان والفرنسيون، والآن الأمين العام للأمم المتحدة. والواقع أن قانون الانتخابات الذى أجريت على أساسه عام ٢٠١٨ لا يسمح بتغيير ملحوظ، وبخاصة فى المناطق الطائفية شبه الصافية، وبسبب وجود السلاح بيد «حزب الله».

ولذلك وإن أجريت الانتخابات فإن الشبان التغييريين لن تحقق الانتخابات آمالهم. ولبنان مثل العراق وتونس والسودان، من حيث السوء الشديد فى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وبخلاف تلك البلدان فإن هذا الأمر جديد على لبنان، ولذلك فإن العواقب أو المآلات وخيمة؛ لأن الانتخابات لن تغير إلى الأفضل، ما دام المسلحون الحاكمون باقين فى المشهد. وهكذا فستزداد موجات الهجرة ومساعيها وهى متفاقمة حاليًا.

بعد الثورة على البشير وانهيار حكمه قبل عامين، لأن الجيش «وربما باتفاق بين كبار ضباطه» ما ظل واقفًا معه. وبتدخل دولى وإفريقى وعربى جرى اصطناع آلية للاشتراك بين العسكريين والمدنيين خلال المرحلة الانتقالية التى تبلغ نهايتها بعد عام. ولأن مشكلات السودان بعد ثلاثين عامًا من الحكم العسكرى كبيرة وكثيرة؛ فإن الطرفين المدنى والعسكرى نفد صبرهما، فبادر العسكريون إلى التخلى عن الشراكة وإقالة الحكومة المدنية ووضع الأعضاء فى الاعتقال أو الإقامة الجبرية! لكن الانتقال بالجديد ما صمد أكثر من شهر بسبب الضغوط الدولية ووقف المساعدات للحكومة والناس.

وهكذا عاد حمدوك إلى رئاسة الحكومة، باتفاق، لم يرض عنه المدنيون. والأمر الآن لا يقتصر على المشكلات اليومية للتشارك؛ بل هل تنتهى المرحلة الانتقالية بانتخابات بالفعل؟

ليست هناك آلية سلمية للتغيير فى بلدان الاضطراب غير الانتخابات إنما مَنْ يقنع المسيطرين بالذهاب إذا خذلتهم صناديق الاقتراع؟ هذه هى المشكلة.

نقلًا عن «الشرق الأوسط» اللندنية