رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لهيب الحرب والحر.. فلسطينيون يروون وقائع الحياة فى «أفران غزة» مع قدوم الصيف

غزة
غزة

بين لهيب الحرب والنزوح، ولهيب الحزن على الأرواح التى ضاعت، يعيش أهل غزة منذ أكثر من ٧ أشهر، وخلال الأيام القليلة الماضية، زاد على ذلك كله لهيب الحرّ مع قدوم فصل الصيف.

وتتزايد قسوة هذا اللهيب فى ظل الأجواء المدمرة التى يعيشها أهل غزة على الأصعدة جميعًا، وغياب جميع وسائل الحصول على نسمة هواء باردة، أو كوب ماء يخفف من قسوة الحرارة على الأجساد.

«الدستور» تواصلت مع نازحين من أهالى غزة، لمعرفة ما يعيشونه حاليًا بسبب هذه المأساة الجديدة، التى تُضاف إلى مآسيهم العديدة منذ وقوع الحرب فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، وتتمثل فى قدوم الصيف بحرارته ورطوبته القاسية.

محمد القدرة:  أماكن الإقامة «صوب حرارية» وغياب لمحاليل معالجة الجفاف

أكد الدكتور محمد أحمد القدرة، طبيب طوارئ بمجمع ناصر الطبى، أن الخيام التى يأوى إليها أهالى قطاع غزة حاليًا بعد تدمير معظم المبانى والمنشآت بالقطاع على يد جيش الاحتلال الإسرائيلى، قد تسببت فى زيادة التعرض لدرجات الحرارة، وأصابت كثيرًا من الأهالى بأمراض الجفاف.

وقال: «بعد تدمير الجيش الإسرائيلى جميع الأماكن التى كانت تؤوى السكان صارت الخيام هى المكان الوحيد الذى يلجأ إليه المواطنون للسكن، ومساحة الخيمة لا تزيد على ٩ أمتار مربعة، ولا تحوى أى نوافذ للتهوية، ما يؤدى إلى تخزينها الحرارة فى داخلها، لتصبح جحيمًا لا يطاق».

وأضاف: «الضرر الأكبر من هذا الارتفاع فى الحرارة يقع على الأطفال، خاصة الرضع منهم، والذين لا يستطيعون الحديث والشكوى، حتى يصبح الصراخ وسيلتهم الوحيدة للتعبير عن آلامهم، وحاليًا يعد الجفاف أحد أكثر الأمراض التى يتعرض لها أطفال القطاع، فى ظل الارتفاع فى درجات الحرارة وندرة الحصول على ماء كافٍ للشرب».

وأشار إلى أن الأطباء لا يستطيعون علاج معظم حالات الجفاف لوجود نقص حاد فى الأدوية وغياب تام لبعض المحاليل المستخدمة فى العلاج، الأمر الذى يزيد من أعداد الوفيات نتيجة التعرض للجفاف، خاصة بين الأطفال، لعدم الحصول على العلاج المناسب.

وأوضح الطبيب الغزاوى أن الصغار والكبار فى القطاع يتعرضون بسبب ارتفاع درجات الحرارة إلى أعراض «ضربات الشمس»، بسبب الحرارة وعدم وجود أماكن للاحتماء بها، ما يزيد من الوفيات، منوهًا إلى أن تلك الأعراض قد تتسبب فى رفع حرارة الشخص إلى ما يزيد على ٤٠ درجة، الأمر الذى يتسبب فى تسارع نبضات القلب وتراجع الحالة الصحية، وقد يصل الأمر للوفاة حال عدم توافر العلاج المناسب. 

واستطرد: «زيادة التعرض لحرارة الشمس المباشرة تؤدى أيضًا إلى حدوث العديد من الحروق بالجلد، خاصة مع محاولة بعض المواطنين الاحتماء من الشمس بالنزول فى مياه البحر ذات الملوحة المرتفعة، خاصة بعد أن تسربت إليها مياه الصرف الصحى».

ولفت إلى انتشار عدد من الأمراض فى القطاع حاليًا، منها مرض التهاب السحايا، باعتباره واحدًا من الأمراض التى تنتشر فى البيئة الفيروسية والبكتيرية، ويزداد انتشاره مع ارتفاع درجات الحرارة، وكذلك مرض التهاب الكبد الوبائى، الذى يعد واحدًا من أكثر الأمراض انتشارًا فى الفترة الأخيرة، والمتوقع زيادته، بسبب حالة التلوث الإجمالية التى يعيشها أهالى قطاع غزة حاليًا.

أسامة العكلوك: الخيام لا تُطاق.. ولا توجد وسيلة تهوية واحدة 

قال الدكتور أسامة العكلوك، مدير مجمع «الشفاء» الطبى فى قطاع غزة، إنه مثلما جعلتهم الحرب يعيشون كوارث، حتمًا لن تعطيها كتب التاريخ الوصف الدقيق، فى ظل درجات الحرارة المنخفضة وبرد الشتاء القارس، فإنها تفرض عليهم حاليًا ظروفًا مأساوية جديدة، فى ظل ارتفاع درجات الحرارة مع حلول فصل الصيف.

وأضاف «العكلوك»: «العيش داخل الخيام حاليًا أصبح كالعيش داخل الأفران، فى ظل أن أغلب هذه الخيام مصنوع من البلاستيك أو القماش، وكلاهما ينقل درجات الحرارة ولا يقى منها، سواءً كانت مرتفعة أو منخفضة، وهذا يجعل الحياة داخلها لا تُطاق، كما أن الحياة خارجها لا تُطاق أيضًا، بسبب لهيب الشمس الحارق أثناء النهار، والحشرات أثناء الليل».

وفى ظل عدم وجود أى وسائل تهوية، بل عدم وجود كهرباء من الأساس لتشغيل هذه الوسائل، يلجأ النازحون إلى الاستحمام فى مياه البحر، هربًا من ارتفاع درجات الحرارة التى هاجمت قطاع غزة، وفق مدير مجمع «الشفاء».

لكن «العكلوك» يشير إلى أن «البحر لدينا ملوث هو الآخر بالعديد من الملوثات، أبرزها مياه الصرف التى اختلطت به منذ الحرب، لذا فإن الكثير من النازحين أصيبوا بالعديد من الأمراض، أثناء محاولتهم الفرار من هذا الحر».

وواصل: «أكثر من يدفع فاتورة الحرب فى ظل ارتفاع درجات الحرارة هم الأطفال والنساء والحوامل، إلى جانب المسنين وأصحاب الأمراض المزمنة بطبيعة الحال، كما كانوا أيضًا منذ بداية الحرب فى الشتاء».

وأتم: «ما زاد الحرارة شدّة فى قطاع غزة أيضًا هو عدم وجود وقود لاستخدامه فى الطهى والاستحمام وغيره من الاستخدامات، واضطرار النازحين إلى استخدام الخشب والفحم وحرقهما بدلًا من ذلك، ما تسبب فى ارتفاع درجات الحرارة بشكل أكثر من الطبيعى، وقبل أوانه بأوان».

محمد أحمد:  هل أروى عطش رضيعى أم أخفف عنه الحر؟!

«مع ارتفاع درجات الحرارة بصورة كبيرة فى قطاع غزة، أصبحنا نرى حشرات لم يسبق لنا أن رأيناها من قبل، حتى الذباب العادى أصبح يقرصنا وكأنه بعوض».. بهذه الكلمات بدأ محمد أحمد، الذى نزح من شمال غزة إلى الجنوب، بعد أن دُمرت شقته بالكامل، حديثه عن الأوضاع الحالية فى ظل ارتفاع درجات الحرارة.

وأضاف «أحمد» واصفًا الحرارة داخل الخيام: «الساونا أرحم منها، أتحدى أن يتحمل أحد هذه الحرارة، ولا نملك سوى الصبر والدعاء بالقدرة على هذا الصبر».

الأب لـ٣ أطفال بينهم رضيع رُزق به فى أول أيام الحرب، يشير إلى أن هذا الرضيع هو أكثر المتضررين من ارتفاع درجات الحرارة، مضيفًا: «فى ظل هذه الحرارة المرتفعة يظل يصرخ طوال الليل بسبب لدغات البعوض والذباب المستوحش، وغيرها من الحشرات الغريبة التى تكثر فى ظل هذه الأجواء، وتهاجم جسده الصغير النحيل، ولا نملك سوى أن نرش عليه القليل من الماء، فى ظل ندرته». وتابع: «مع قدوم فصل الصيف واشتداد درجات الحرارة، زادت المعادلة صعوبة على المواطن الفلسطينى، فى الاختيار بين الإبقاء على كوب الماء ليسدّ به عطشه، أو أن يسكبه على جسده لتخفيف درجات حرارته، أو جسد طفله خوفًا من إصابته بضربات الشمس، وهو بصعوبة بالغة يحصل على هذا الكوب، ويعيش فى معارك من أجله».

واختتم حديثه بالقول: «نحن ننتظر بفارغ الصبر عقد الهدنة لكى تنصلح الأحوال قليلًا عما نعيشه، خاصة أننا ندرك أن الوضع قد يزداد سوءًا، لأننا ما زلنا فى بداية الصيف، فماذا عن أيام وليالى الصيف المقبلة؟».

الأجواء تؤدى إلى انتشار جميع المشكلات الصحية

حذرت مارجريت هاريس، المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية، من أن ارتفاع الحرارة سيشكل مشكلة كبيرة فى قطاع غزة، على المدى الطويل، لأن الطقس الحار يؤدى إلى تفاقم جميع أنواع المشكلات الصحية.

وقالت «هاريس»، فى تصريحات إعلامية سابقة: «الطقس الحار، خاصة فى الآونة الأخيرة، له آثار سلبية خطيرة على المرضى، وهو ما تزداد صعوبته فى غزة، حيث يعيش قرابة ٢ مليون شخص فى خيام».

وأضافت: «الحرارة على المدى الطويل ستكون مشكلة كبيرة فى غزة، لأن الطقس الحار يؤدى إلى تفاقم جميع أنواع المشكلات الصحية. إذا كنت تعانى من مرض القلب مثلًا، فأنت مع ارتفاع درجة الحرارة أكثر عُرضة للإصابة بنوبة قلبية، فضلًا عن خطر إصابتك بسكتة دماغية». وواصلت: «المدنيون فى غزة يعانون التكدس الكبير داخل الخيام، ولا يستطيعون الاغتسال، وهذه ظروف غير صحية تمامًا»، مشيرة إلى أن الطقس الحار يؤدى إلى انخفاض المناعة، وزيادة الإصابة بالأمراض المعدية أو الأكثر خطورة.

محمد الحداد: ما عُدنا نرى أى شىءمن أسراب الحشرات الطائرة

«عندما نمشى فى الطرقات ما عدنا نرى أى شىء من كثرة أسراب الحشرات الطائرة»، بهذه الكلمات وصف محمد الحداد، أحد النازحين فى قطاع غزة، الوضع فى القطاع، مع بدء أولى موجات الحرارة المرتفعة واقتراب فصل الصيف، موضحًا أن التكدس الكبير للأسر فى مناطق بعينها يزيد من الحرارة، كما يزيد من التلوث وانتشار الأمراض المعدية. 

وقال: «الأماكن الآمنة نوعًا ما فى القطاع حتى الآن، سواء فى دير البلح أو خان يونس أو المنطقة الغربية، تشهد تكدسًا لا يوصف، وهذا التكدس نفسه يزيد من درجات الحرارة، ويضاعف من معدلات التلوث، ما زاد من انتشار أسراب الحشرات بشكل غير متخيل، ويزيد من التهديدات لصحة الأهالى».

أيمن الرقب: الحرارة تصل إلى 70 درجة لغياب الكهرباء ووسائل التهوية

كشف الدكتور أيمن الرقب، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس، عن أن بعض أهالى قطاع غزة لجأوا لوضع أغصان الأشجار وسعف النخيل فوق الخيام، مع فرش بعض الملاءات أعلى أسقفها، فى محاولة منهم لتخفيف تعرض الخيام لدرجات الحرارة، واصفًا تلك المحاولات بأنها دون جدوى فى معظم الأحيان، نظرًا للارتفاع الكبير فى درجات الحرارة حاليًا.

وأضاف: «درجة الحرارة داخل خيام النازحين قد تصل أحيانًا إلى ٧٠ درجة مئوية، لأن الخيام غير مجهزة للتعامل مع الحرارة الشديدة، وهذا ما يعرض أهالى القطاع لكثير من الأمراض والأوبئة».

وتابع: «التعرض لهذه الحرارة البالغة، وفى ظل انعدام وجود كهرباء أو وسائل التهوية، دفع النازحين لاتباع بعض الطرق البدائية لعلها تخفف عنهم وطأة الحر، لكن كل ذلك لا يكون مجديًا، ما يفاقم من المعاناة ويزيد من المخاطر الصحية».