رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القبودان

أمجد مارك
أمجد مارك

الإسكندرية ١٨٥٣

ميناء رأس التين الحربى

ما إن دقّ كعب القومندان عمرو باشا المنصورى أرضية الطرقة داخل الثكنة العسكرية، حتى انتصب جنديَّا الحراسةِ بزيهما المكون من صديرى وبنطالٍ فضفاضٍ. هتف أحدهما بصوتٍ رجّ المكان: «ثاااابت». ثم ارتفعت سواعدهما ببندقيتين فرنسيتين، كل بندقية منهما مزودة بحَربة مسنونة. توقف الباشا أمامهما وراح يحملق فى عينيهما ليتأكد أنهما غير ناعسين، وهنا تجلت تحت ضوء الفانوس المُعلَّق على الحائط تقاطيع وجهه المنحوتة وشاربه الذى يشبه قبة مقوسة، ثم سألهما:

- «سيادة اللواء فى مكتبه؟».

أجاب جندى دون أن يدوّر وجهه ناحية الضابط:

- «بيمر على الترسانة يا فندم».

- «خير! حد مشرفنا؟».

- «مندوب من السراى يا فندم». 

هزّ الباشا رأسه متنهدًا:

- «شكلها نبطشية حلبة!».

تنحّى عمرو باشا بإزاء النافذة، وأخرج من جيب سترته الشتوية لفافة تبغ فبرمها وأشعلها بقدّاحته. وقف يتأمل المنظر الذى يطل عليه الميناء الحربى بالأسفل، بدا له البحر فى بهاء القمر كأنه منجل مسنون يطوق قاعدتهم العسكرية. فكر فى حال بلاده الواقعة تحت نير الإمبراطورية العثمانية منذ قرونٍ، إمبراطورية لا تشبه سوى امرأة حيزبون، تريد دهس جيوش الدنيا جميعهم تحت قدميها، وأن تجعل من كل نساء شعبها مجموعة من الأرامل. وليتها تقنع بما مارسته من استيطان فى أنحاء المسكونة، بل لا تكفّ عن مشاكسة مراكز القوة، وعلى رأسهم روسيا، و«نقولا» القيصر لا يقل جنونًا عن السلطان! 

العثمانلية يناطحون العالم، والعالم أقوى وأكبر من مجرد إمبراطورية عجوز، فيردّ لها الصاع صاعين، لكن مَن الضحية وسط هذه المعمعة؟ مستعمرات العثمانيين المحتلة التى لا حول لها ولا قوة، ومصر واحدة منها بعدما صارت مجرد ولاية فاقدة للأهلية! لديه هاجس بأن استدعاء قائد سلاح البحرية له فى هذه الساعة المتأخرة من الليل، لا يقف وراءه سوى غلطة جديدة تضاف لسِجل تلك الحيزبون العثمانلية.

قطع تفكيره صوت همهمة قادمة مِن آخر الطرقة. تلفّت فوجد اللواء إسماعيل باشا أبوجبل يذرع الطُرقة وخلفه يهرع ثلاثة ضباط شبّان، يلقنهم تعليماته بلكنة مصرية خالصة لا تخلو من رسمية. حدّثهم عن مدافع جديدة وفدت للترسانة يجب التأكد من صيانتها، وعن الفرقاطة «تحيا مصر» التى يجب استدعاء كامل أفراد طاقمها. فمَنْ يقطنون فى كفر الدوار يرسل لهم بالبريد، ومَنْ فى محيط المنشية واللبان والعطارين يرسل جنود المراسلة حتى بيوتهم ليبلغوهم، على أن يحضروا جميعهم فى ظرف ليلتين على الأكثر أيًّا كان موقعهم. وقبل أن يبلغ اللواء باب مكتبه توقّف مؤذِنًا بتلويحة من يده للضباط بالرحيل، ثم بخطوات بطيئة اقترب من المنصورى.

- «بقالك كتير منتظر؟».

- «كنت بسمع تعليمات حضرتك، بتتكلّم عربى ولا أكنك من بحرى!».

أخرج اللواء مفتاحه من سُترته وفتح غرفة القيادة فخرج صرير عن مفصلات بابها:

- «سليمان باشا الفرنساوى علّمنا إنك لما تكلم الظباط بلغتهم تكسبهم».

- «صحيح يا فندم ولا أكنك عثمانلى».

- «ولا أقرب لهم، أنا كردى أساسًا!».

- «القائد الذكى يتعلّم أى حاجة بسهولة».

- «والله انتم تِطَلَّعُوا للأبكم لسان».

- «إحنا مين؟».

- «المصريين.. أنا ورايا غيركم؟!».

- «حصل أى حاجة من رجالاتنا يا فندم؟».

- «رجالاتكم ربنا يحفظهم من اللى جاى».

قالها اللواء وتنهد، ثم أشار لعمرو كى يجلس، ولأنه لم يكن يُسمَحُ لكثيرين من أفراد الجيش، خاصة المصريين، بدخول مكاتب القادة واصل عمرو تأمُّلَ الغرفة: على الحائط عُلقت لوحة زيتية لميدان القناصل، ثم نزل ببصره فلمح على المكتب فرمانًا همايونيًّا مختومًا بختم السلطان عبدالمجيد، انتبه سيادة اللواء لتلصُّصِهِ فناداه:

- «أنت نوبتجى يا عمرو؟».

- «تمام يا فندم».

- «ما أنا أصلى بشمّ نبطشياتك!».

تنحنح عمرو مُحرَجًا. لم يكن فى حاجة للتقدم أكثر نحو المكتب وقراءة الفرمان المكتوب بالتركية كى يتأكد أنها نبطشية حلبة فعلًا، إذ يكفى الشعار الهمايونى المختوم عليه. تابع بعينيه حركة اللواء وهو يشعل غليونه، تحت يده استقرت كاتينة فضية على هيئة جمجمة، ومسدس مع قارورة خاصة بتزييته، وعلبة تبغ مرصعة بألماس. رفع بصره مجددًا كأنه فوّت أهم ضيف مهمَل على جدار الغرفة، فتأمل بورتريهًا لوجهِ عباس باشا الأول بدا فيه الوالى كأنه شارد أو يراقب راسِمه، يحتفظ على وجهه بتكشيرته التى تداريها لحيته الكثة، وعلى منكبيه بنياشينه المُقبَّبة. أمعن فى تأملها فشعر وكأن هاتين القُبتين يحمل ثِقلهما جموع المصريين كلهم. 

- «خير سيادتك!».

غاص اللواء أبوجبل فى كُرسيه واحتضن طربوشه فى كفّيه: 

- «حرب يا عمرو!».

صمت عمرو قليلًا واستجمع أنفاسه، ثم قال بنبرة مَن كان يتوقع كل شىء:

- «الروس اتحركوا؟».

- «دخلوا الأستانة!».

- «أنا كنت فاكر القيصر بيهوّش».

- «اللى بيعمل مبيهوِّش!».

- «والدولة؟».

- «الأتراك مش قد الحرب، الفرمان صدر بتعبئة كاملة لكل المصريين». 

بُهِت عمرو مما يتلقّاه، أخذ اللواء نفسًا من غليونه، ثم واصل:

- «أنا لسه جاى من الترسانة». 

- «فيه مراكب حالتها متسمحش تنزل من على الرافع».

- «أى قطعة بحرية حتى لو خردة هتطلع».

ظلَّا يرمقان بعضهما وعمرو يحاول التأكد أن ما يدور فى ذهنه صحيح، حتى نطقها أخيرًا: 

- «وتحيا مصر؟».

- «هتطلع بحر، دى أوامر الوالى».

- «وأوامر سيادتك؟».

- «تروح تشوف حسن الإسكندرانى مخفى فى أى داهية، ويكون فى مكتبى الصبح مقفّز ميرى».

- «بس سيادتك...».

- «امنع الكلام! يا تجيب صاحبك بطريقتك يا نجيبه بطريقتنا!».