رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تاريخ سرى للعنقاء

أيمن بكر
أيمن بكر

طارت بى الأحلام ساعتها.. ما رأيك يا أفندى فى تعبير «طارت الأحلام» هذا؟، ألا يشبه مجازاتك الميتة، لكن هذا بالضبط ما شعرت به بعد فوز لوحة الثعلب السجين بالجائزة الأولى.

كنت بعدها أرى بعض ملامح ڤان جوخ حين أنظر فى المرآة، وأحيانًا جوجان، لكن ڤان جوخ بالتحديد يعود دومًا ليتلبس ملامحى المنتشية.. سؤال «لماذا؟» يقفز من عينيك، آااااه.. لا أدرى بالتحديد، لكنه الوحيد الذى يؤرقنى.. غالبًا حريته.. نعم.. حريته كانت لفترة طويلة تُطير النوم من عينى، حتى فقره وإهمال الناس له فى حياته كانا لصالح حريته. أتعرف أنه الوحيد الذى استطاع أن يختار موته وأن يتأمله لأيام؟! كما أقول لك يا أفندى، ولا تقل لى إنها صدفة أن تبقى الرصاصة فى جسده لأيام قبل أن يموت. لقد اختار أن يلتقى الموت وأن يتأمله. لكن أين هذا مما حدث معى؟، حين فزت بالجائزة، التفت حولى مجموعة من الصحفيين وسماسرة الفن.. لم أفهم تلميحاتهم، أو ما الذى يريدون منى بالضبط؟!

كان الفنان المعروف محمود السحار هو صاحب المركز الثانى كما تعلم، ويبدو أن أحدًا قد أجبره على حضور الحفل؛ فقد لمحت فى عينيه ساعتها غضبًا وتعاليًا لا مثيل لهما، كما أفلتت منه نظرة احتقار وفضول نحوى.. نعم.. كيف يتفوق عليه هذا الصعلوك الأسمر ذو الملامح الجنوبية وهو مَن هو؟! لم أفهم ما يدور حولى؛ عرض مُغرٍ من أحد السماسرة لشراء ما أرسم لمدة عشر سنوات مقابل مبلغ كبير، على أن أسلمه عشر لوحات على الأقل كل عام.. لم أفهم، فرفضت. صحافة تتجاهل لوحتى الفائزة بالجائزة الأولى وتركز على اللوحتين الفائزتين بالمركزين الثانى والثالث.. لم أفهم. محاولات كثيرة شائهة بعد ذلك لاستنساخ الثعلب السجين رغم تجاهلها إعلاميًا.. لم أفهم. لذا قررت التوقف والابتعاد لعلنى أفهم، ولم أعد للرسم ثانية حتى أتتنى دعوة فان جوخ، ودخلت لوحته كما تعرف.

استيقظ وعلى وجهه ابتسامة عريضة. أعاد الحلم ذكرى اليوم الذى انقلبت فيه الجامعة رأسًا على عقب، بسبب ادعاء مراد أنه يستطيع الدخول إلى إحدى لوحات فان جوخ كلما أراد. قطع ساعتها الساحة بين مبنى كلية الآداب والمكتبة كالبرق؛ ليلتحم مع مراد وهو جالس فى وسط مجموعة تستمع مسلوبة اللب والإرادة.

-.. لست أنا وحدى من يملك هذه الكرامة. المهم أن تكتشف لوحتك، ونفسك أولًا. أنا من محبى فان جوخ وخصوصًا لوحته «الغربان وحقل القمح». نعم، الحقل الذى يغلب عليه اللون الأصفر، وينتهى بربوة تمتد لتلتقى بالسماء الزرقاء.. كنت مفتونًا بها قبل أن أعرف أنها لوحتى التى تحوم حولها، روحى، وأستطيع دخولها وقتما شئت وشاءت. طالما تساءلت عن الطيور السوداء الكئيبة التى تحلق فوق الحقل، أكانت غربانًا أم نُذر موت؟ ثم ما هذا الطريق الذى يمتد صاعدًا ويضج بكل الألوان؟ أهو مسارنا فى الحياة بكل أشكالها وألوانها؟ رسمها هذا المجنون قبل أن يموت، كأنها رسالته الأخيرة، أو دعوة غامضة لاتباع طريقه، لكنها دعوة تخص أشخاصًا بأعينهم. المهم أن الطريق ينتهى فوق الربوة عند نقطة تشبه المهوى، وربما هذا ما دعانى للدخول.. ليست الأسباب مهمة الآن، المهم أننى دخلت اللوحة وتمشيت فيها.. الأمر لا يحتمل المزاح أو المجاز.. سأحكى لكم.

فى أمستردام وقفت أمام اللوحة، قالوا إنه أطلق النار على نفسه بعد رسمها بأيام، وقالوا إنها رسالته الأخيرة، ولكن لمن؟! وما الرسالة بالتحديد؟! الآن أثق بأننى من المقصودين بها. حين وقفت أمامها لمحت حركة غريبة فى عيدان القمح، كأنما الحقل كله يشير إلىَّ ويدعوننى. فركت عينى طبعًا واستعذت بالله من شيطان جوخ، لكنّ شيئين حدثا معًا جعلانى أتسمر فى مكانى. سمعت نعقة غراب حادة، وشممت رائحة الحقل تضرب أنفى، بعدها وجدت اللوحة تقترب وأنا ثابت فى مكانى ورائحة الحقل تزداد نصاعة، فى لحظة كنت أقف بين سنابل القمح بهيئتى ذاتها، ولكن حافى القدمين. بقيت دقائق أحاول فهم ما جرى. كل شىء كان طبيعيًّا وهادئًا، وقلبى ينبض بصورة عادية. لم أكن متعجبًا بالقدر الذى شعرته قبل الدخول. رفعت قدمى بأول خطوة، فتسرب إلى جسدى كله ملمس التربة وعيدان القمح. الهواء كان منعشًا وفيه لسعة برد حادة لم أعتدها، تحركت وأنا أحسبنى فى حلم، لكن أصوات الغربان، تعالت والحركة كانت حقيقية، فركت سنبلة قمح، فتهادت الحبات على كفى. تتبعت الطريق، صعدت بلهفة عارمة، الطريق منحدر بشدة وصعوده ليس أمرًا سهلًا بالمرة. وقفت ونظرت خلفى، كانت البلدة واضحة المعالم بأكواخها الخشبية الكبيرة، والحقل ممتدًا بأكثر مما يبدو فى الصورة يمينًا ويسارًا. صعدت.. صعدت.. صعدت.. حتى وصلت لنهاية الطريق التى تبدو فى اللوحة فتحة صغيرة تتصل بالسماء. هناك اتسعت الرؤية حتى انعقد لسانى، كانت اللوحة تتكرر بحذافيرها. هرولت سعيدًا بملمس الأرض المعشبة على طول الطريق، حتى وصلت لقمة الربوة ثانيةً، فوجدت اللوحة أمامى للمرة الثالثة. هناك لمحت حذائى وجوربىَّ، هل كانا هناك كلما وصلت إلى أعلى التل كل مرة، أم أن اللوحة كانت تدعونى للخروج فى هذه اللحظة؟ قعدت ولبستهم، فوجدتنى فى لمح البصر مرة أخرى فى المتحف، واقفًا أمام اللوحة وحبات القمح فى يدى.

حين صمت، كان الجميع فى حالة ذهول. استمر الصمت لما يقارب الدقيقة. ملامح مراد طوال الوقت توحى بالجدية المطلقة، والمحتشدون حوله كانوا كمن يحلم، أو يبحث عن لوحته، نهض مراد تاركًا زملاءه كأنَّ على رءوسهم الطير.