رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ثقيف» تتفاوض على «الطاغية»

لم يكن دخول ثقيف والثقفيين فى الإسلام بالأمر الهيّن، بل كان شديد التعقيد. لقد دخل أهل مكة الإسلام بشكل سريع وحاسم بعد أن فتحها النبى وجيشه، ولم يجد أغلبهم بدًا من اللحاق بالدين الجديد، بعد أن أصبحت مكة كاملة تحت سيطرة المسلمين. الأمر كان مختلفًا فى الطائف، فقد كان من يعيش فيها من «ثقيف» فى مأمن، بسبب حصانة أبوابها وأسوارها، أضف إلى ذلك ما تمتعوا به من ثراء منحهم إحساسًا بالقوة. الأخطر أن ثقيفًا كانت أكثر ولاءً لعقيدتها الوثنية من مشركى مكة، وكان معبودها «اللات»، والبيت الذى رفعت عليه صنمه «بيت اللات» من أشد الأماكن قداسة بالنسبة لها.

لقد أفسح النبى، صلى الله عليه وسلم، المجال لمالك بن عوف- بعد أن أسلم- ليخاطب قومه من ثقيف فى الإسلام، لكنهم لم يسمعوا له، فلجأ مالك إلى غزوهم والتضييق عليهم، لكن الواضح أنه لم يستطع حسم الأمر معهم. استعان النبى أيضًا بعروة بن مسعود «الثقفى»، الذى اتبع أثر النبى بعد رحيله عن الطائف وأسلم بين يديه واستأذنه فى العودة إلى قومه؛ ليدعوهم إلى الدخول فى دين الله، أذن النبى له فى ذلك، وذهب إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينه؛ فرموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله. لم يكن أمر ترك عبادة «اللات» بالنسبة لثقيف بالهيّن. ظلت «ثقيف» تقاوم حتى تعبت وأدركت أنه لا طاقة لها بمواجهة العرب جميعهم، بعد أن أسلم أغلب القبائل، وأصبحت محاصرة بالإسلام من كل اتجاه. عند ذلك اجتمع كبارها وانتهوا إلى تشكيل وفد للتفاوض مع محمد، صلى الله عليه وسلم.

ذهب وفد «ثقيف» للحديث مع محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان أول ما طلبوه منه أن يترك لهم «الطاغية» ثلاث سنوات ولا يهدمه. و«الطاغية» هى صنم «اللات»، الإلهة التى بنت لها ثقيف بيتًا تعظمها فيه، هو «بيت اللات»، وقد تأملت ذات يوم أن يحل بيت اللات محل البيت الحرام فى مكة على مستوى القيمة والمقام، وهو ما لم يحدث. رفض النبى هذا المطلب رفضًا قاطعًا، فأخذوا يساومونه على تركها لهم سنة، ثم فاوضوه على تركها شهرًا، وهو يأبى صلى الله عليه وسلم، حاولوا إقناعه بأنهم يهدفون من وراء ذلك إلى تأليف قلب سفهائهم، دون جدوى، وانتهى بهم الأمر إلى أن يطلبوا من النبى ألا يهدموها بأيديهم، فوافق لهم على ذلك، واتفق على أن يبعث معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة ليهدماها. وقد قام المغيرة بهدمها تحت حماية عدد من سادات ثقيف خوفًا من قتله، وخرج نساء ثقيف يبكين «اللات» وينحن عليها. المسألة الثانية التى فاوض عليها وفد ثقيف ورفضها النبى، صلى الله عليه وسلم، هى الصلاة، فقد طلبوا منه أن يعفيهم من الصلوات الخمس التى فرضها الله على المسلم، فرفض صلى الله عليه وسلم هذا المطلب، وقال لهم: لا خير فى دين لا صلاة فيه، فكان أن رضخوا وقالوا: سنؤتيكها.

فى المقابل وافق الرسول على بعض الشروط الأخرى التى وضعها وفد ثقيف للدخول فى الإسلام، جاء على رأسها الشرط المتعلق بألا يستعمل عليهم غيرهم، بمعنى ألا يحكمهم أحد من خارج «ثقيف»، وقد وافقهم النبى على هذا الشرط، وقال له أحد الشباب الثقفيين، وهو عثمان بن ابى العاص: يا رسول الله علمنى القرآن واجعلنى إمام قومى، فوافق النبى على ذلك وولاه عليهم. وقد حسن إسلام «عثمان» وأقبل على التفقه فى الدين وأحبه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لذلك. اشترط وفد ثقيف شرطين آخرين: أولهما ألا يدفعوا صدقة، وثانيهما ألا يشاركوا فى جهاد، وقد وافقهم النبى، صلى الله عليه وسلم، على الشرطين، وقال: سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا. 

تعامل النبى كما هو واضح مع مطالب ثقيف بدرجة عالية من الحكمة، فرفض ما لا يمكن قبوله من شروط، مثل الاستمرار على الوثنية والاحتفاظ ببيت اللات، أو ترك الصلاة. فقد جاء النبى بعقيدة الوحدانية وهدم الأوثان فى مكة، كما أن الصلاة عماد الدين، وبالتالى لم يفاوض النبى على الأمرين، أما ما يتعلق بأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، فقد قبل النبى ذلك، إذ لم يجد فيه غضاضة ما داموا سيهدمون اللات ويدخلون فى الإسلام، كما تقبل صلى الله عليه وسلم إعفاء ثقيف من الصدقات والجهاد، من منطلق أنهم سيلتزمون بذلك من تلقاء أنفسهم حين يتمكن الإسلام من قلوبهم. لقد تشدد النبى، صلى الله عليه وسلم، فيما يجب التشدد فيه، وكان من المرونة فيما يتعلق باحترام الثقافة العامة السائدة لدى الشعوب، مثل إصرار بعض القبائل على حكم نفسها بنفسها، كما أحبت ثقيف، وعكس قبول هذا الشرط حكمة بليغة، إذ أدرك النبى، صلى الله عليه وسلم، أن أهل ثقيف لن يخضعوا إلا لواحد منهم، وأن دواعى الاستقرار تتطلب الاستجابة لهذا المطلب من مطالبهم، أما الصدقة والمشاركة فى الجهاد فهما يتعلقان بمبادرات ذاتية من جانب الفرد المؤمن نفسه، فإذا كان إيمانه هشًا تردد فى دفع الصدقة أو المشاركة فى الجهاد، وإذا حسن دينه فعل ذلك مدفوعًا بإيمانه. ومؤكد أنه لا خير فى أى ثقفى يخرج إلى الجهاد وهو غير مقتنع، إذ قد يكون بوابة للهزيمة، والأفضل فى مثل هذه الحالات ألا يشارك وأن يبقى بعيدًا عن المعركة.

لقد تعامل النبى، صلى الله عليه وسلم، مع ثقيف بدرجة واضحة من الحذر، لأنه كان يعلم تركيبة أهلها، يدلل على ذلك الحديث الذى قاله فيهم: «فى ثقيف كذاب ومبير».. وقد قيل إن الكذاب هو «المختار بن أبى عبيدالله الثقفى»، وأما المبير فهو «الحجاج بن يوسف الثقفى».