رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بين لويس عوض.. وإدوار الخراط

اجتمع مساء يوم ٢٥ الشهر الماضي (مارس) نخبة من المثقفين في صالون إدوار الخراط للحوار حول كتاب مذكرات طالب بعثة للويس عوض وكتاب مجالدة المستحيل لإدوار الخراط.

وتحدث حول هذين الكتابين الناقد الأدبي الأستاذ إيهاب الملاح وكاتب هذه السطور وعدد من المثقفين من بينهم الدكتور إيهاب الخراط نجل إدوار الخراط.

والكتابان يندرجان تحت أدب السيرة الذاتية والتي ظهرت في الأدب العربي كنوع أدبي في العقود الأولى من القرن التاسع عشر كانت في بداياتها شكلا جنينيا للرواية.

أما عن مذكرات طالب بعثة فكاتبه هو لويس عوض عوض (٣١ ديسمبر ١٩١٤ -  ٩ سبتمبر ١٩٩٠). واسمه الأصلى: لويز حنا خليل عوض. يدونه بمذكراته رغم أنه عُرِفَ بلويس عوض. وعرف الكافة هذا الاسم الأصلى عندما أُلقى القبض عليه فى زمن السادات ضمن مجموعة من المثقفين والسياسيين.

منذ أن غادر قريته شارونة بصعيد المنيا للالتحاق بكلية الآداب جامعة القاهرة فى ثلاثينيات القرن الماضى وهو يحمل بين جوانحه حلم الذهاب إلى لندن لنيل شهادة الدكتوراه فى الأدب الإنجليزى من جامعة كمبريدج. وكان له ما أراد، ففى نهايات الثلاثينيات شد الرحال إلى انجلترا عقب تخرجه فى قسم اللغة الإنجليزية فى بعثة لحصوله على درجة الامتياز فى وقت عصيب، فالحرب العالمية الثانية لم تضع أوزارها بعد، ولكن لا بد من لندن حتى وإن كان السفر فى سفينة فى البحر المتوسط معرضة لغارات المحور فى أية لحظة.

فى عاصمة الضباب
سجل الدكتور لويس عوض وقائع سنوات رحلته فى إنجلترا بخط يده باللغة العامية وفقد المخطوط إلى أن فوجئ بأن كتابه مذكرات طالب بعثة منشور فى كتاب بالإسكندرية بعنوان «كنارى» وعلى نفقة أحد الصحفيين هناك قام بإرسال نسخة من هذا الكتاب إلى لويس عوض وآخرين، فانتاب لويس الغضب لأن عملا من أعماله، قد نشر دون إذنه، وكيف يصل هذا الكتاب إلى يده بعد ضياع ٢٠ عاما، لكنه لم يجد بدا من مقابلة هذا الصحفى لأخذ أصول الكتاب الذى يعد تجربة جديدة فى الحياة الأدبية والنقدية فقد كتبه بالعامية.

وهذا الكتاب بالتحديد فتح أمام ناقدنا آفاقا جديدة فى تجارب اللغة من حيث السرد والوصف والتحليل وقد أتم لويس عوض كتابه عام ١٩٤٢ وتم نشره فى الستينات، والكتاب يعد مصدرا مهما لمرحلة محورية فى حياة لويس عوض ولونا أدبيا سبقه إليه طه حسين فى «الأيام» وفى«أديب» وتوفيق الحكيم فى «عصفور من الشرق»، وقد حكى فيه عن مدى صرامة الدراسة فى كمبريدج وحرصها على التقاليد التى تلزم الطالب بالانضباط الشديد فيما يتعلق بارتداء الزى الرسمى للجامعة خارجها وداخلها وإنزال العقوبات على المخالفين مثلا.

بل والأكثر غرابة أن الصورة السائدة لدى الإنجليز عن مصر وقتها أنها مجرد صحراء فى وسطها الأهرامات، وكان لويس عوض طالبا مجدا ينكب على المراجع بنهم ولكنه لم يحرم نفسه من متعة التعرف على المظاهر الحضارية فى بريطانيا.
أما لماذا كتبها بالعامية المصرية وهذا موقف غريب من ناقد قد يُقبل من مُبدع من حقه أن يشغله هم التجريب حتى فى اللغة.

أما الناقد فربما لم تكن للموضوع أى أولوية ملحة.
يكتب لويس عوض فى مقدمة هذه المذكرات: - بقيت كلمة عن الكتاب نفسه – يقصد كتاب مذكرات طالب بعثة – وكيف جاء إلى الوجود. كنت بعد عودتى من كامبريدج فى سبتمبر ١٩٤٠، كثير التفكير فى مشكلة اللغة والتعبير الأدبى شعرا ونثرا. وهو ما يسمى عادة مشكلة العامية والفصحى. وقد انتهيت قبل ذلك بسنوات إلى إمكان قيام شعر بالعامية بالتجاور تجاورا شرعيا مع شعر الفصحى.

دون أن يوجد بالضرورة أى تعارض بينهما. أما كتابة الشعر بالعامية فقد أجريت بالفعل بعض التجارب فى هذا المجال بين عامى ١٩٣٧ و١٩٤٠. ظلت تُتداول بين المثقفين فى جامعة القاهرة وخارجها منسوخة على الآلة الكاتبة حتى نشرتها عام ١٩٤٧ فى ديوان بلوتولاند، والحق أنه لم يكن فى كلامى جديد إلا الطريقة التى عبَرتُ بها عن آرائى.

ويستطرد الدكتور لويس عوض فى ذكر الأعمال المكتوبة بالعامية المصرية ومدى إعجابه بها. ويتوقف أمام عمل: السيد ومراته فى باريس، لمحمود بيرم التونسى. وقد كتبه صاحبه فى ثلاثينيات القرن الماضى. ويُعبِّر عن مدى إعجابه به عندما قرأه. كانت لدى صاحب المذكرات شجاعة الاعتراف بأن كتابة مذكرات طالب بعثة يُعد الثمرة المباشرة لقراءته لنص بيرم التونسى. هذا على الرغم من وجود تجارب أخرى سابقة للكتابة بالعامية.

ويعترف لويس عوض بأن كتاب رفاعة رافع الطهطاوى: تخليص الإبريز فى تلخيص باريز المنشور سنة ١٩٣٤ كان من دوافعه لكتابة كتابه.

يكتب لويس عوض: 
قعدت على كرسى الاعتراف ابتديت أكتب وآدى اللى كتبته وقدمته لرقابة النشر فى ٢٥ أكتوبر ١٩٤٤، مكتوبا على الآلة الكاتبة. ولا أستبعد أنى أودعت فى الرقابة ثلاث نسخ على الأقل. وقد رفضت الرقابة الموافقة على نشر الكتاب لأن الكتب لا ينبغى أن تصدر إلا بالفصحى.

وكتاب مذكرات طالب بعثة هو الكتاب الوحيد الذي وضعه د‏.‏ لويس عوض باللهجة العامية المصرية وأهداه في ذلك الوقت إلى آنسة فرنسية تدعي مادليف برنيه‏،‏ ويصفها بأنها كانت واهبة السعادة له‏،‏ وهي فتاة كان يحبها د‏.‏ لويس حبا جما أيام التلمذة في إنجلترا‏،‏ وقبل أن يتزوج من فتاة فرنسية أخري التقي بها مصادفة أثناء الاحتفال في ميدان الباستيل الفرنسي الشهير بعيد الثورة الفرنسية.
وأثار قضية الكتابة بالعامية لا تزال حتى الآن تجد من يناصرها‏،‏ وهي إفساح المجال أمام العامية في مواجهة الفصحي‏.‏

العجيب والغريب أن الدعوة التي حملها كتاب مذكرات طالب بعثة ظلت في حياة لويس عوض وكأنها اللعنة‏،‏ فلقد استند اليها البعض في دعواهم بسحب جائزة الدولة التقديرية من لويس عوض إلى جانب كتابه فقه اللغة العربية‏،‏ لكنه سيبقي في كل الأحوال‏،‏ علامة مضيئة في تاريخ العقل المصري الحديث والمعاصر الذي يرفض الجمود.
أما عن "مجالدة المستحيل" السيرة الذاتية لإدوار الخراط فلنا معها وقفة في المقال القادم.