رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قميص غزة.. أخطر كتاب عن القطاع المحاصر من إسرائيل و«حماس»!

شنت إسرائيل عدوانها على قطاع غزة يوم السبت الموافق ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٨، ثم أعلنت وقف إطلاق النار من جانبها يوم ١٨ يناير ٢٠٠٩، وقبل ثلاثة أيام من وقف إطلاق النار أعلنت جريدة الشرق الأوسط عن انتهاء د. فضل «السيد إمام عبدالعزيز الشريف» من كتابه «قميص غزة!»، كما أعلنتْ عن حصولها على حق نشر الكتاب. وسوف أقوم فى هذا الموضوع، بأجزائه الأربعة الأولى بعرض أهم ما جاء فى هذا الكتاب، الذى يحمل فى طياته كثيرًا من الصدمات والحقائق الموجعة للكثيرين، بينما سيكون الجزء الخامس والأخير خاصًا بوجهة نظرى فيما يخص بعض ما جاء به. وأعتقد أن أهمية عرض الكتاب الآن هو ما تمر به المنطقة منذ هجمات السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ وما تلاها من عدوانٍ غاشم على قطاع غزة. ولكى ندرك قيمة هذا العمل، يجب أن نعرف أولًا مَن هو المؤلف، ولماذا كتب كتابه هذا كما ذكر هو فى مقدمته؟ د. فضل هو الاسم الحركى للسيد إمام الشريف الذى يحمل لقبًا جهاديًا هو عبدالقادر بن عبدالعزيز. هو أحد أهم الأسماء فى تاريخ الجماعات الإرهابية التكفيرية التى أطلقت على نفسها مسمى «الحركات الجهادية الإسلامية» فى أكثر من نصف قرنٍ. فهو من وجوه الصف الأول من «المنظرين» لهذا الفكر، وكانت بعض مؤلفاته مراجعًا جهادية تتم الاستعانة بها فى مراكز تدريب مقاتلى القاعدة وغيرها. ويكفى أن نشير إلى عناوين بعض مؤلفاته تلك حتى نعرف عمن نتحدث! فلقد حمل أحد كتبه عنوان «الإرهاب من الإسلام، ومَن أنكر ذلك فقد كفر»، بينما حمل كتابٌ آخر هو الأهم عنوان «العمدة فى إعداد العدة!»، إذن نحن نتحدث عن أحد أعمدة الفكر التكفيرى للحركات والجماعات التى اكتوت بنيران جرائمها دول الشرق الأوسط، وفى القلب منها مصر! 

ثم تحول ليصبح أحد رموز ما يسمى «المراجعات الفكرية والشرعية» منذ عام ٢٠٠٧ تقريبًا حين أصدر «وثيقة ترشيد العمل الجهادى!». تشير بعض المراجع إلى أنه كان أول أعضاء المجلس الاستشارى فى تنظيم القاعدة، بينما يُصر هو على أن دوره لم يكن إلا دورًا استشاريًا شرعيًا فى أغلب الأحيان لصداقته قيادات تلك التنظيمات! وكتابه الذى سيكون موضوع هذه المقالات قد كتبه فى المرحلة الثانية من حياته، أى أنه يندرج تحت كتابات المراجعة!

لماذا «قميص غزة»؟

يبدأ د. فضل فى مقدمة كتابه بذكر السبب الذى دفعه إلى كتابة هذا الكتاب الشائك فى وقت العدوان على غزة عام ٢٠٠٨: «هذه أمورٌ تواردت على خاطرى مع الهجمة الإسرائيلية على قطاع غزة بفلسطين، والتى بدأت يوم السبت ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٨، وكان الباعث لى على كتابة هذه الخواطر ما رأيته من الخلط بين الحق والباطل فيما اطلعتُ عليه من وسائل الإعلام، وما رأيته من انسياق الجماهير وراء العواطف والشعارات بغير بصيرة».

ويحدد طبيعة الكتاب بشكلٍ واضح.. «فأردتُ أن أبدى رأيى فى هذه الأمور من منظور إسلامى». 

يضرب مثالًا متقدمًا على ما يحتويه كتابه من أفكار سوف يقوم بعرضها تفصيلًا فى مواضعها «مع بداية مأساة غزة طالب قادة حماس- وهم حكام غزة- أهالى غزة بالصبر والثأر، وأنهم لن يستسلموا ولو تمت إبادة غزة كلها. وهذا الكلام ليست له أى صلة بدين الإسلام، الذى سيحاسبنا ربنا على أساسه. فلا يجوز إجبار الناس على ما لا طاقة لهم به، ثم تحميل الآخرين تبعات ذلك، وتوزيع الاتهامات بأن هذا خان القضية، وهذا باع القضية». ونحن نقرأ هذه الفقرات وغيرها، وحتى نهاية هذا العرض، يجب أن نتذكر دائمًا أنه يتحدث عن مشهد عام ٢٠٠٨ بخسائره المحدودة مقارنة بالمأساة الحالية لقطاع غزة، ويبقى حقٌ لكل منا أن يضع المشهدين وجهًا لوجه! 

لقد خصص المؤلف فى كتابه هذا جزءًا مهمًا عن الموقف المصرى عام ٢٠٠٨ والمساعدات التى قدمتها مصر آنذاك. وأضيف أنا على ذلك أيضًا موقف مصر عام ٢٠١٤ وعام ٢٠١٨، وفى كل مرة كانت مصر تقدم مساعداتها للقطاع. إذن فما قاله فضل عن الموقف المصرى عام ٢٠٠٨ ينطبق تمامًا على ما بعده، بل وتتضاعف قيمته فى العدوان الأخير الذى قدمت فيه مصر منفردة أكثر ما قدمته باقى الدول مجتمعة. ويفاجئنا فضل فى هذا الموضع عن مساعدات مصر بتفسيرٍ يرى أنه التفسير الدينى الشرعى الصحيح ومدعمًا تدعيمًا دينيًا، وسوف أعرضه فى موضعه من هذه المجموعة من المقالات، كما سأقوم بالرد عليه فى الجزء الأخير.

هل فلسطين أم القضايا؟

تبدأ صدمات فضل حينما يحدد بعض ضحايا ما أسماه «أكذوبة أن فلسطين هى أم القضايا»..يقدم سردًا تاريخيًا لاستغلال قميص فلسطين، ويوضح كيف دفع الفلسطينيون أنفسهم ثمن هذا الاستغلال.. «وقد كان أول ضحايا هذه الأكذوبة- فلسطين أم القضايا- هم أهل فلسطين أنفسهم. فبسبب (أم القضايا) أعطى ياسر عرفات لنفسه حق التدخل فى شئون الآخرين، وقبول ما يشاء ورفض ما يشاء، وتخوين من يشاء لأنه صاحب القضية، فجلب هذا على الفلسطينيين الويلات. ابتداءً مما ارتكبه الفلسطينيون فى الأردن من أفعال مشينة- بعد نزوحهم إليها بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية- وتصرف عرفات فى الأردن كأنه صاحبها وحاكمها، فوقعت مذابح أيلول ١٩٧٠، قتل فيها آلاف الفلسطينيين ثم طُردوا من الأردن إلى لبنان. وفيها كرر عرفات الأخطاء نفسها لأنه (أبو القضية) والكل ينبغى أن يكون طوع أمره، فكانت مذبحة تل الزعتر ١٩٧٦ ثم مذبحة صابرا وشاتيلا سقط فيهما آلاف الفلسطينيين. عندما شرع عرفات فى مفاوضاته مع إسرائيل وظهر مشروع الدولة الفلسطينية، قيل لعرفات هل تستطيع أن تحكم دولة؟ فقال (كيف لا وقد كنتُ أنا الذى أحكم بيروت؟) ثم طُردوا من لبنان ١٩٨٢ إلى تونس واليمن وغيرهما. ثم تسبب عرفات بعد ذلك فى طرد آلاف الفلسطينيين وقطع أرزاقهم بسبب موقفه المساند لصدام حسين فى احتلال الكويت عام ١٩٩٠».

«ولأنه صاحب أم القضايا، فقد رفض عرفات الحكم الذاتى الكامل للضفة الغربية وقطاع غزة- قبل أن يكون فيهما أى مستوطنات- الذى قدمه له الرئيس المصرى أنور السادات على طبقٍ من ذهب دون جهدٍ منه بمقتضى اتفاقية كامب ديفيد ١٩٧٨. وما زلتُ أذكر كلمة الرئيس المصرى التى كررها عن هديته للفلسطينيين، فكرر بالإنجليزية- فُل أوتونومى- أى حكم ذاتى كامل، فاستكبر عرفات وغيره ورفضوا الهدية، ثم ذهب عرفات بنفسه إلى كامب ديفيد الثانية بعد عشرين عامًا ولم يحصل على شىء حتى مات محسورًا محصورًا فى بيته عام ٢٠٠٥. جاءت الفرصة الذهبية لعرفات فرفضها، ولم تأت الفرصة مرة أخرى».

يُحمِّل «فضل» عرفات مسئولية دماء أهل فلسطين التى أريقت منذ عام ١٩٧٨، ويقدم مبررات اتهامه هذا.. «كان عرض السادات فلتة أظنها لن تتكرر، فقد وصف الله اليهود بأنهم «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا»، والنقير هو النقرة فى وسط نواة التمر، أى إذا تملك اليهود فلا يعطون الناس شيئًا.. لهذا فإننى أقول إن كل قطرة دم سالت من الفلسطينيين منذ عام ١٩٧٨ سواء فى فلسطين أو لبنان أو غيرهما هى فى رقبة عرفات لرفضه الحكم الذاتى الذى عرضه السادات. فلم يضر أحدٌ أهله كما أضر عرفات الفلسطينيين لأن طموحاته كانت أكبر من قدراته، فدفع شعبه الثمن قبل غيره. وهذا خلاف الشريعة، لأن هناك فرقًا بين الواجب والمستطاع».

ويستكمل فضل اتهامه قائلًا «مَن الذى أضاع فرصة الحكم الذاتى، إنه ياسر عرفات. ومن الذى يبنى المستوطنات التى مزقت الضفة الغربية؟ إنهم عمال فلسطينيون. مَن الذى قتل الفلسطينيين بلا هوادة أو رحمة؟ لم يقتصر ذلك على اليهود، بل قتلهم العرب فى الأردن ولبنان ردًا على سياسة قادتهم. وقتل الفلسطينيون أنفسهم مرارًا فى غزة وغيرها. وفى انقلاب حماس على حكومة محمود عباس عام ٢٠٠٧، ألقى الفلسطينيون أهلهم من الطابق الخامس للعمارات، وسجنوا بعضهم».

سر التسمية

فى البداية كان ضروريًا أن يفسر فضل معنى عنوان كتابه «قميص غزة» تفسيرًا مدعمًا بالأحداث التاريخية.. فيرجع بالفكرة إلى أصلها الأول فى تاريخ المسلمين فيقول «كان بداية رفع القمصان فى أمة الإسلام لتبرير ما عليه الإنسان من الخطأ ولترهيب مخالفيه: عندما رفع معاوية بن أبى سفيان قميصَ عثمان بن عفان- الذى قُتل فيه ظلمًا وعدوانًا- لتبرير خروجه (أى معاوية) على علىّ بن أبى طالب وقتاله له، وقد سقط بسبب هذا القميص آلاف القتلى من المسلمين لم يُقتل مثل عددهم فى كل معارك المسلمين قبلها مجتمعة منذ ظهور الإسلام وحتى فتوحاته فى الجزيرة العربية وبلاد فارس والروم».

ثم يستعرض كيف تم استغلال فكرة القمصان عبر تاريخ المسلمين.. ويحدد واجبًا على علماء الدين القيام به.. «ثم تتابعت القُمُص بعد ذلك فى تاريخ الأمة، ومعظمها كان سببه المنازعة على الملك والسلطان. حتى كانت السنوات الأخيرة التى رفع فيها بن لادن وحزبه قميص الجهاد ومحاربة أمريكا وإسرائيل، واتهموا كل من ينتقدهم، وبسبب هذا القميص تسبب بن لادن فى احتلال أمريكا لأفغانستان ثم العراق، وتسبب فى قتل مئات الآلاف من شعوبهما وتشريد الملايين، وتسبب فى فتح معتقلات جوانتانامو وأبوغريب. وإذا انتقدهم أحدٌ رفعوا فى وجهه قميص الجهاد وتحرير المسجد الأقصى لإرهابه ولإسكاته عن نقد جرائمهم. ثم كان آخر هذه القُمُص هو قميص غزة، حتى رفعه فى هذه الأيام من لا شأن لهم بغزة أو فلسطين من قريبٍ أو بعيدٍ لتوزيع الاتهامات والتخوينات هنا وهناك».

«ومع رفع القمصان التى لها قدسية عند الجماهير يتم إرهاب المخالف لإسكاته، ويستمر المخطىء فى خطئه، وتضيع الحقيقة بين الناس، وهنا يأتى دور من لديه شىء من العلم لكشف الحقائق وتمييز الحق من الباطل.. وليس من واجب أهل العلم بالدين مجاراة أهواء الناس، بل تمحيصها وبيان ما فيها من حقٍ أو باطل. فلا يجوز لمن أتاه الله شيئًا من العلم بالدين أن يجارى الناس ويقول إن فلسطين هى أم القضايا، إلا إذا كانت هى كذلك فعلًا بعد بحثٍ وتدقيق..والحقيقة التى لا تحتاج إلى كثير بحث، هى أن فلسطين ليست أم القضايا!».

«شاع بين الناس فى العقود الأخيرة أن قضية فلسطين هى أم القضايا الإسلامية والعربية، وتبع ذلك أن أصبح قميص فلسطين من المقدسات، ومعيارًا للحكم على الناس ومواقفهم، وكأنه الدين! وباسم فلسطين وقعت انقلابات، وأريقت دماء فى بعض الدول، والكل يتحدث باسم فلسطين، ومنهم من أكل وأثرى بسببها!».