رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حلم من إنتاج مصرى يتطلع إليه العالم مثل القطن المصرى


لا أدرى، لماذا لم يراودنى أبدًا، «الحلم الأمريكى»، تلك الأمنية الكبرى، التى يجرى وراءها الناس، من أجل التحقق والسعادة والاستمتاع والرفاهية؟. لم يحدث أبدًا، فى أى مرحلة من مراحل حياتى، أننى قررت بناء مستقبلى فى الكتابة والاستقرار والتحقق والسعادة والاستمتاع والرفاهية، إلا فى مصر التى ولدت على أرضها.
لن أقول الكلام المستهلك، الذى يتردد بمناسبة وغير مناسبة، إننى لم أفكر فى الحياة خارج مصر، بدافع من عشق تراب مصر، وبشعور جارف لما يسمونه «الوطنية» التى تُستخدم أغلب الوقت، بشكل كاذب، مخادع ومبالغ فيه.
لكن هناك شيئًا بداخلى طول الوقت يندهش من فكرة «الحلم الأمريكى»، المسيطر على العقول. أنا مصرية، المفروض إذن، أن أحلم بـ«الحلم المصرى»، وليس «الحلم الأمريكى»، أو أى حلم آخر. سؤال منطقى، يفرضه العقل البسيط، ليس فيه أى تعقيد، أو وطنية صعبة. سؤال آخر، يفرضه المنطق، والعقل، إذا كنت سأفشل فى مصر، الأرض التى ولدت فيها وأتكلم لغتها وأعرف واقعها وتذوقت إبداعاتها المختلفة ومررت بما مرت به، وأحمل فى دمى «الجينات» الممتزجة المتداخلة من الحضارات والثقافات التى شهدتها، إذن بالبديهة البسيطة، سأفشل أكثر، على أرض غريبة؟!.
لقد زرت بلادًا عديدة، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، من فنلندا والسويد وإيطاليا والمجر والمملكة المتحدة وأمريكا وكندا وهولندا وغيرها الكثير.
وكان من السهل جدًا أن أستقر خارج مصر، حيث إن لغتى الإنجليزية تساعدنى وعاداتى وتقاليدى وأفكارى ومزاجى وأخلاقى تتناغم أكثر مع النمطين الأوروبى والأمريكى.
لكننى كنت أشعر به، بأن تحقيق النجاح والعيش برفاهية واستمتاع وسعادة، لن يكون بحلاوة المذاق نفسه الذى سأشعر به إذا حققت هذه الأشياء فى مصر. كنت أقول: سأكون ناجحة، مثلًا، وفى رفاهية اقتصادية، لا دوشة ميكروفونات ولا قمامة متناثرة فوق الأرصفة، الدين منفصل عن المجتمع، لا فتاوى دينية تأمر بارتداء الحجاب أو النقاب، لا تكفير دينيًا أو نبذ اجتماعيًا، ولا تشويه أو تجاهل إعلاميًا للكاتبات والشاعرات المتمردات، لا تطفل على حياة النساء، الكتابة تؤتى ثمارها ماديًا وأدبيًا، نظام منضبط من الألف إلى الياء، فى كل الأشياء والمجالات، أعيش بكامل حريتى وطاقاتى الكامنة، لا تطفل على النساء، أمارس هواياتى، وأسمع وأشاهد الفنون الراقية، وإذا مرضت سأجد مستشفيات طبية ترعانى فورًا دون أن أكون فاحشة الثراء، وإذا حدثت لى حادثة على الطريق، أو فى المنزل، سوف تأتى سيارة الإسعاف أو سيارة البوليس فى ثوانٍ معدودة. ثم ماذا بعد؟. أهذا كل شىء، فى تحقيق السعادة والرفاهية والاستمتاع؟.
شىء بداخلى يتمنى لو كنت فى مصر، أعيش فى أمان اقتصادى وأمان صحى وأمان ثقافى. لكننى فى الوقت نفسه، لم تداعبنى مجرد الفكرة، فى بناء مستقبلى خارج مصر.
حتى إننى بعد الثانوية العامة، لم أفكر فى دخول الجامعة الأمريكية، كما كان يفعل البعض. لا الجامعة الأمريكية كانت أمنيتى ولا الحلم الأمريكى كان هدفى. دخلت جامعة القاهرة وأحببت بناء مستقبلى فى مصر، وتحمست لتحقيق «الحلم المصرى» الخاص بى وحدى.
وعندما تحتل مدينة «فيينا» التى أعشقها، المرتبة الأولى، لعدة سنوات متتالية، فى جودة ونوعية الحياة، لا أجد نفسى نادمة على عدم الإقامة هناك، وكنت أقول لنفسى: كل مجتمع له مشاكله، وكل شعب له ما عليه، وكل حضارة لها عيوبها وكل ثقافة لها سلبياتها وكل بيئة لها أمراضها، وأيضًا يقول العقل إن التغيير أسهل فى بلد أعرفه، وأنا لا أستطيع العيش إلا إذا كانت فكرة «التغيير» من أهدافى الكبرى. وكنت أتساءل: لو فى مصر مشاكل وأزمات وأمراض وعيوب وسلبيات، فمنْ سيحلها، لتكون وطنًاأفضل إذا كان أهلها يهجرونها للاستمتاع بالحياة فى وطن آخر؟!. لا أحد يستطيع تحمل عيوبنا إلا أنفسنا أصحاب العيوب أنفسهم.
لن أزعم أننى فى وطنى مرتاحة كل الراحة، التى من المفروض أن أشعر بها، ومن المفروض أننى أستحقها بالكامل، دون أن أطالب بها. لكننى إنسانة مخلوقة بشكل، أننى أجد «نصف الراحة» أو «ربعها» فى وطنى أكثر متعة من الراحة «الكاملة» على أرض أخرى.
وإذا كنا قد أصبحنا، منذ سنوات، فى قرية عالمية صغيرة، فإن كونى كاتبة سهل جدًا فى أى مكان لا يشترط فى وطنى، من خلال الكمبيوتر الصغير أكتب مقالاتى وقصائدى ومجرد الضغط على «زر» واحد ستذهب مقالاتى إلى مصر أو «وطنى» وإلى أى مكان آخر أريد، فى دقيقة واحدة.
لكننى لم أرغب أبدًا فى مثل هذه الأحلام المستوردة. كنت دائمًا أريد، ومنذ نعومة أظافرى، حلمًا من إنتاج مصر، «صُنع فى مصر»، «ماركة مسجلة مصرية»، يتطلع إليه العالم مثل «القطن المصرى».
لست أضع شروطًا للبشر ولست أحكم على اختياراتهم. كل إنسان، امرأة، أو رجلًا، يضع تعريفاته للأشياء، ومقاييسه للنجاح والتحقق والسعادة، لكننى امرأة لا يرويها نهر المسيسبى أو نهر الدانوب أو نهر التيمز، وإنما الماء الذى يشق طريقه فى نهر النيل، يتحمل طول وعناء الطريق، ليصل سالمًا إلى بيتى حاملًا أفراحى وأحزانى.
من بستان قصائدى
أفعل الخير
وأرميه كما يقولون
فى عمق البحر
رميت الكثير
لا شكر من أحد
لا ثواب
المشكلة أننى أعرف نفسى
سأظل أفعل كما يقولون
وأرمى الخير فى البحر
وسيظل السؤال بلا جواب.