رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المقامرة بأرواح الإثيوبيين



ما رجّحناه مرارًا، أكدته الخارجية السودانية ببيان شديد اللهجة، قالت فيه إن «مجموعة محددة فى أديس أبابا تقامر بمصالح الشعب الإثيوبى وأمنه واستقراره، لخدمة مصالح شخصية وفئوية»، وشدّدت على أن كل فئات الشعب السودانى وقياداته، عسكريين ومدنيين، موحدة فى موقفها ودعمها الكامل لبسط سيطرة السودان وسيادته على كامل أراضيه.
بالتزامن مع وجود محمد الحسن ولد لبات، مبعوث الاتحاد الإفريقى بالخرطوم، لمحاولة محاصرة التصعيد بين البلدين، أصدرت الخارجية الإثيوبية بيانًا صفيقًا، كررت فيه اتهامها السودان بغزو أراضيها ومهاجمة إثيوبيين وتشريدهم، وزعمت أن «الصراع الذى يروج له الجناح العسكرى للحكومة السودانية لن يخدم إلا مصالح طرف ثالث».
فى المقابل، أبدت الخارجية السودانية أسفها لبيان الخارجية الإثيوبية، الذى رأت أنه «يحطّ من قدر السودان، ويخون تاريخ العلاقات بين البلدين»، وطالبت الحكومة الإثيوبية بالكف عن ادعاءات لا يساندها حق ولا حقائق، ودعتها إلى إعمال المصلحة العليا للشعب الإثيوبى، وقالت إن «إساءة بيان إثيوبيا للسودان واتهامه بالعمالة لأطراف أخرى إهانة بالغة ولا تُغتفر»، وأكدت أن قوات طرف ثالث دخلت مع القوات الإثيوبية المعتدية إلى الأرض السودانية، فى إشارة إلى إريتريا التى يتحالف رئيسها مع الحكومة الإثيوبية فى عدوانها على إقليم تيجراى.
إثيوبيا ارتكبت، ولا تزال، سلسلة من التجاوزات. والأسبوع الماضى، رصدت السلطات السودانية حشودًا إثيوبية على الحدود. واستباقًا لزيارة «ولد لبات»، عقدت اللجنة السودانية العليا لسد النهضة، اجتماعًا طارئًا، مساء الأربعاء، أكدت فيه على ضرورة ضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة للقيام بدور الوساطة، إلى جانب الاتحاد الإفريقى، بعد انتخاب الكونغو رئيسًا لدورة الاتحاد الحالية، وجددت اللجنة رفض السودان إعلان إثيوبيا بدء الملء الثانى لسد النهضة فى يوليو المقبل، لما يشكّله من تهديد للأمن القومى للبلاد.
كان من المقرر أو المفترض أن تنعقد قمة ثلاثية فى عاصمة جنوب السودان بين رئيس مجلس السيادة السودانى، ورئيس الوزراء الإثيوبى، وسلفاكير ميارديت رئيس دولة جنوب السودان، فى إطار المساعى التى يقوم بها الأخير لنزع فتيل التوتر بين الخرطوم وأديس أبابا. ومنذ أسابيع، يقوم توت قلواك، مستشار رئيس جنوب السودان، بزيارات مكوكية بين الخرطوم وأديس أبابا، أرجعها إلى قلق بلاده من الانتشار العسكرى الكثيف على حدود الدولتين، وخشيتها من نشوب حرب قد تتأثر بها، لكونها جزءًا لا يتجزأ من السودان.
بينما كان «قلواك» يسعى لجمع الطرفين، من أجل التوصل لاتفاق، وفقًا للخريطة البريطانية. حاولت إثيوبيا، الثلاثاء، إقحام تركيا فى الموضوع بطلبها وساطتها أو دعمها، واستدعى السودان سفيره لدى أديس أبابا، الأربعاء، ثم أوفد الاتحاد الإفريقى «ولد لبات»، الخميس، للتباحث مع الحكومة السودانية بشأن عدد من القضايا، على رأسها توترات الحدود مع إثيوبيا وتعثر مفاوضات سد النهضة. وكان «ولد لبات» قد قاد المفاوضات بين المجلس العسكرى السودانى، وقوى إعلان الحرية والتغيير، والتى انتهت بالتوقيع على اتفاق إدارة الفترة الانتقالية الحالية.
تركيا ليست بعيدة عن إثيوبيا، وغير تورطها فى تهريب الأسلحة إلى الحركات المناهضة للحكومة الإثيوبية، فإن لها فى الصومال قاعدة عسكرية، وبسببها تعيش مقديشو أزمة سياسية، منذ بداية فبراير الجارى، مع انتهاء ولاية الرئيس محمد عبدالله المعروف باسم «فرماجو». وكنا قد أوضحنا، فى مقال سابق، أن الطموحات الإثيوبية فى الصومال تصطدم بالوجود التركى، وأشرنا إلى قيام إثيوبيا بدعم حكومة إقليم أرض الصومال، صوماليلاند، مقابل تحالف تركيا مع الحكومة الصومالية فى صراعها مع ذلك الإقليم المنفصل من جانب واحد.
الصومال كان يعتزم إجراء انتخابات غير مباشرة، يقوم فيها شيوخ العشائر بانتخاب النواب فى ديسمبر الماضى، على أن يقوم النواب بانتخاب الرئيس فى ٨ من فبراير الجارى، غير أن المعارضة اتهمت الرئيس بأنه ملأ المجالس الانتخابية الوطنية والإقليمية بحلفائه حتى يضمن الفوز بولاية ثانية، ما أدى إلى تأجيل الانتخابات، وخروج المتظاهرين الغاضبين إلى شوارع مقديشو، الذين قوبلوا بقمع شديد من قوات خاصة معروفة باسم فرقة «جورجور» تلقت تدريبها فى القاعدة التركية. ومنذ يوم الجمعة، تنتشر المدرعات التركية فى شوارع العاصمة الصومالية، ما كشف عن تورط أنقرة فى إشعال الصراع الذى قد يتكرر بحذافيره فى إثيوبيا.
.. وتبقى الإشارة إلى أن مسألة الحدود، كما سبق أن رجّحنا، وكما أكدت الخارجية السودانية أيضًا، لا يمكن أن تكون مبررًا للعدوانية التى تتصرف بها إثيوبيا، أو لمقامرتها بمصالح الإثيوبيين وأرواحهم، لأن الحدود السودانية الإثيوبية تم ترسيمها سنة ١٩٠٢ باتفاقية وقعتها بريطانيا مع الإمبراطور الإثيوبى منليك الثانى، وظلت إثيوبيا تؤكد التزامها بها قبل أن تزعم أنها لا تعترف بـ«الاتفاقيات الاستعمارية»، مع أن السودان هو الذى كان تحت الاحتلال البريطانى وقت توقيع الاتفاقية، وكانت إثيوبيا دولة مستقلة!