رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معبود الجماهير.. أيام الوعظ والسلطنة «27»

محمد الباز يكتب: شهادة باحث أمريكي.. هل كان عدوية سوقيًا إلى هذه الدرجة؟

محمد الباز
محمد الباز

- ولتر أرمبرست: وسائل الإعلام الرسمية كانت تحتقر المطرب الشعبى وتمنع إذاعة أغانيه
- المعترضون على عدوية يرون أنه نتاج للغناء فى الملاهى الليلية
- صوت عدوية خال من العُرب والحليات الموسيقية وأغانيه صاخبة وسريعة


بعد ثورة ٢٥ يناير جاء أستاذ الأنثروبولوجى الأمريكى «والتر أرمبرست» إلى مصر، ولمدة عامين طارد خلالهما الأحداث التى لم تكن مستقرة أبدًا، ليستقر هو على موضوع لدراسة وضعها فى كتاب عنوانه «حاوى الثورة المصرية»، ولم يكن هذا الحاوى إلا الإعلامى الذى ملأ الدنيا وشغل الناس: توفيق عكاشة.
عكاشة هنا ليس بطلى، ولكن البطل هو هذا الباحث الذى كان قد زار مصر للمرة الأولى فى بداية التسعينيات، وهو يعد رسالته للدكتوراه، وكان موضوعها الثقافة الجماهيرية والحداثة، بما دفعه ليضع مصر تحديدا تحت كل عدسات الاختبار، دون أن يدرك- أو ربما يكون أدرك الآن- أن الحداثة فى مصر مثل موج البحر تخضع لقانون المد والجزر.
فى زيارته الأولى كان أحمد عدوية هو بطله، وهو ما لا يجعلنا نتعجب أن يكون بطله فى الزيارة الثانية توفيق عكاشة، فعلى ما يبدو أننا أمام باحث يقوده اهتمامه بصاحب التأثير الأعلى شعبيًا، خاصة عندما يكون هناك هجوم عليه وانتقاد له، ورغم ذلك لا يتوقف عن النجاح والانتشار، وهو ما حدث لعدوية وتوفيق عكاشة «يمكن أن نضيف نماذج أخرى كثيرة يصلح تطبيق هذا القانون عليها، لكن يظل المطرب هو الأعلى والأبرز والأكثر تدليلا عليه».
كان السؤال الرئيس الذى طرحه أرمبرست فى زيارته الثانية هو: لماذا يحصد شخص مثل عكاشة كل هذه الشهرة، حتى يمتلك كل هذا القدر من التأثير فى المجال السياسى، بينما لا يملك موضوعيا أى مؤهلات تمكنه من بلوغ هذا القدر؟.
كان يمكن أن يقطع عليه أحدهم الطريق، يعفيه من البحث والدراسة والجهد والمجهود، ويقول له: لأننا ببساطة فى مصر. لكن يبدو أن أحدًا لم يعترض طريقه، ولم يقل له ما يعكس حقائق الأمور.
حاول الباحث الأمريكى الجاد أن يضع ظاهرة عكاشة فى إطار علمى بعيدًا عن الأحاديث الساخرة التى أحاطت به من كل جانب، وكان هو بالطبع سببًا رئيسيًا فيها، لأنها فى النهاية تعليقات بلا أساس ولا منطق، ولا يمكن أن تقدم تفسيرًا عمليًا لما أصبح عليه عكاشة.
وضع والتر يده على التفسيرات السياسية فلم تسعفه. استعان بوضعية الإعلام وقواعده ومعاييره فلم يجد مبررًا لما يجرى على الأرض.
فى النهاية اختار مدخله هو، المدخل الأنثروبولوجى، ليس من مساحة دراسة الإنسان وسلوكه فقط، ولا من مساحة قيم ومعايير المجتمع المصرى الذى تزاحمت عليه الأضداد والمتناقضات بعد ثورة يناير فقط، ولكن بالإضافة لذلك دخل إلى عكاشة من مساحة الأنثروبولوجيا اللغوية، حيث سعى إلى معرفة تأثير اللغة على الحياة الاجتماعية، وقد ساعده عكاشة جدًا فى تطبيق هذا المدخل، حيث كانت لغته وتعبيراته ومجازاته جواز العبور لتأثير ضخم على الجماهير.
مؤكد أن رأس هذا الباحث الذى تخرج فى جامعة ميتشجن الأمريكية أعجبك.
ومؤكد أنه سيعجبك أكثر عندما تعرف أنه وضع عدوية خلال دراسته التى أجراها فى مصر مطلع التسعينيات فى مكانه الصحيح.
وقبل أن تسأل: لماذا لا نرى باحثين فى مصر يعملون على فض غموض مثل هذه الظواهر مثلما يفعل باحثون غربيون؟.. سأقول لك إن هناك أسبابًا موضوعية لذلك، فالباحث الغربى يتوقف عند غرائبية ما يعتبره الباحث المحلى أمرًا عاديًا اعتياديًا لأنه يعيشه ويتعايش معه كل يوم، لكن هناك أيضًا أسبابًا عبثية تخص طبيعة البحث العلمى فى مصر، وهذه قضية أخرى تمامًا، فالعلم فى مصر الآن أصبح وظيفيًا، الباحثون يحصلون على الدرجات العلمية للترقى الوظيفى وليس للترقى المعرفى.
ما الذى فعله أرمبرست فى عدوية، أو بالأدق، ما الذى فعله عدوية فى أرمبرست؟.
سأفتح معكم كتاب والتر أرمبرست «الثقافة الجماهيرية والحداثة فى مصر»، الذى صدرت منه طبعتان، الأولى عن المركز القومى للترجمة، وحمل رقم ٢٤٧ ضمن ترجمات المركز، والثانية ضمن مطبوعات مكتبة الأسرة فى العام ٢٠١٢.
المفاجأة التى تنتظركم أنكم لن تبحثوا كثيرًا عن أحمد عدوية، فهو موجود من الصفحة الأولى، واصبروا على والتر قليلًا.
يقول الباحث الأمريكى: فى نوفمبر عام ١٩٩٣ حضرت حفل حلف اليمين فى نقابة المحامين المصرية، وكان يومها يوم حلفان ابنة لبعض أصدقائى، وطلبوا منى أن أذهب معها ومع أمها إلى نقابة المحامين المصرية فى وسط المدينة، لأقوم بتصوير الحدث، لم تكن تلك العائلة عائلة غنية، واحتفال مثل هذا الذى يدشن نجاح الابنة فى الجامعة ودخولها نقابة المحامين يمثل حدثًا عظيمًا بالنسبة لهم، ومع ذلك ولسوء الحظ فإن هذا الحدث ليس إلا مجرد أول ثلاثاء فى الشهر، وهو اليوم الذى يتم فيه روتين حلف اليمين وتخريج جماعة جديدة من المحامين العاطلين إلى سوق العمل غير المهتمة.
هل يمكن أن نجد أحمد عدوية فى نقابة المحامين؟..
انتظر قليلا وسترى.
يواصل أرمبرست حكايته: لم يكن هناك أى عظمة أو احتفال خاص بهذا الحدث، غابت كل الطقوس عن مناسبة كان من المفروض أن تحفل بطقوس، ولم يحاول أحد أن يخبر المحامين الجدد المزهوين بأنفسهم بما يجب عليهم أن يفعلوه، أو متى يجب أن يعملوه، وبدلا من ذلك كان مدخل غرفة حلف اليمين مغلقا بقوة، وكان محامو المستقبل وأسرهم يتجمهرون حول الباب بجنون، وكان الحراس يسمحون لجماعات صغيرة بحفر طريقها إلى الداخل، ولكن أحدًا لم يهتم بتقديم أى معلومات حول طريقة سير الاحتفال، وكان البقاء للأقوى، ولكن الفتاة وأمها كانتا غير مستعدتين للدخول فى معركة لتكونا ضمن أوائل الناس فى الغرفة، واستسلمنا فى النهاية لتناول كوب من الشاى فى انتظار انخفاض الزحام.
استعدوا، عدوية سيظهر بعد قليل.
يصل أرمبرست إلى مقصده من الحكاية، يقول: انزعجت الفتاة التى كان من المفروض أن تحتفل بانتصارها المهنى، وقالت إن المسألة لا تعدو كونها محاولة الصعود إلى الأتوبيس المزدحم، وإنهم يعاملونهم كشوية فلاحين، وأضافت أنه بدون أن ندرى فسوف يخلعون أحزمتهم ويضربوننا، لقد ظنت الفتاة المكان محترمًا، ولكنها لم تجد سوى الفوضى، وبينما كنا نتناول الشاى همست البنت لأمها «زحمة يا دنيا زحمة، زحمة وتاهوا الحبايب»، ابتسمت الأم وأجابت: «زحمة ولا عادش رحمة»، كنت أعرف السطر الأخير فأكملته لهما: «مولد وصاحبه غايب».
من الآن لن يلتفت أرمبرست إلى البنت وأمها، وسيظل مع عدوية، وسواء كانت حكاية محامية المستقبل حقيقية أم من وحى خياله، فإنها كانت مدخلا مناسبا ليعبر من خلاله إلى حكايته الكبيرة مع عدوية.
لكنه قبل أن يقف وجهًا لوجه مع عدوية، حاول أن يضع «زحمة يا دنيا زحمة فى إطارها» فهى- كما يقدمها لقارئه- لم تكن حكمة من حكم الأقدمين، وهى كذلك ليست قادمة من ثقافة شعبية واعية، إنما كانت كلمات من أغنية شعبية، من نوع تلك الأغنيات التى ساهمت فى نشرها التكنولوجيا الحديثة من أشرطة التسجيل أو مكبرات الصوت فى الملاهى الليلية، وكان اقتباس كلمات من «زحمة يا دنيا» طريقة فيها مفارقة للتعليق على عاطفة محبطة، ولكن جزءًا من المفارقة لم يكن فقط فى كلمات الأغنية، ولكن كان فى المغنى أحمد عدوية نفسه.
وقبل أن تسأل عن وجه المفارقة فى أحمد عدوية نفسه، ستجد أرمبرست يقول لك: أحمد عدوية تحتقره وسائل الإعلام الرسمية على أنه ممعن فى السوقية، ومن النادر أن تذاع أعمال عدوية فى الراديو أو التليفزيون.
قبل أن يسمع الباحث الأمريكى البنت وأمها تغنيان زحمة عدوية فى نقابة المحامين، كان قد تعرف عليه عندما شاهد فيلم «شعبان تحت الصفر» الذى لعب بطولته عادل إمام من إنتاج ١٩٨٠، وهو الفيلم الذى غنى فيه عدوية أغنيته زحمة، وهى الأغنية التى كتبها حسن أبوعتمان ولحنها هانى شنودة.
يعلق أرمبرست على وجود أغنية «زحمة» فى «شعبان تحت الصفر» بأنها كانت فى سياق استلهام سريع ومختصر لأغنية شعبية، فالناس من الطبقة المتوسطة يشعرون بالإهانة على يد المؤسسة التى كان يجب أن تسهل صعودهم فى السلم الاجتماعى، ويستجيبون لهذا الموقف بترديد كلمات أغنية يستنكرها نمط من الناس الذين يسيطرون على المؤسسات من أمثال نقابة المحامين، ناهيك عن استنكار وسائل الإعلام الرسمية، لكنها تظل علامة مهمة فى فيلم يمتلئ بإشارات طبقية.
يلتقط والتر خيطًا مهمًا جدًا، البطل فيه ليس أحمد عدوية، ولكن فيلم «شعبان تحت الصفر» نفسه، الذى هو إعادة إنتاج لفكرة تناولها فيلم «لو كنت غنى» الذى قدمته السينما المصرية فى العام ١٩٤٢، ليس هذا مهمًا، المهم فى المقارنة بين السياق الذى خرج فيه كل فيلم منهما.
يقول أرمبرست: الفارق بين فيلم الثمانينيات الذى غنى فيه الفنان الشعبى المرفوض رسميا «زحمة يا دنيا» وبين فيلم الأربعينيات، يدلل على التمايز بين الثقافة الشعبية الحداثية فيما قبل السبعينيات وأنماط الإنتاج اللاحقة والأكثر غموضا، ففى الفيلم الأصلى تم حل مشكلات التحديث بشكل كامل من خلال تدخل الارستقراطى المتعلم الذى لا يملك المال فقط، إنما يملك سر المهنة الذى يمكنه من إدارة المؤسسات الحديثة، ينتهى فيلم «لو كنت غنى» وكل فرد يعود لمكانه الصحيح: العمال السعداء يرقصون فى الشوارع، والأرستقراطى المتعلم يتزوج من فتاة متعلمة من حى مصرى شعبى فقير، وهو المزج المثالى بين الثقافة الرفيعة والثقافة المتدنية لخدمة التحديث.
صنّاع «شعبان تحت الصفر» على العكس تمامًا، ألقوا بأبطالهم فى خضم مشكلات مماثلة لواقع الحياة الحديثة، ولكن لا يوجد هذه المرة- كما يرى والتر- أرستقراطى متعلم ليظهر ويقوم بدور المنقذ، ولا توجد صورة للطبقة المتوسطة الناجحة، لأن محو الطبقة المتوسطة فى الأساس كان الموضوع الأكثر إلحاحًا فى «شعبان تحت الصفر».
خلاصة ما جرى أن فيلم ١٩٤٢ ينتهى وكل الناس يعيشون سعداء بعد ذلك، ولكن فيلم ١٩٨٠ ينتهى والبطل يذهب مقيدًا إلى السجن.
يفرغ أرمبرست من مقارنته بين فيلم الأربعينيات وفيلم الثمانينيات، ليتوقف مرة ثانية مع أغنية عدوية، يرى أن صعقة الاحتقار التى يعبر عنها اقتباس أصدقائه للأغنية السوقية فى السياق الرفيع الذى خاب تُعد دالةً.
هنا تظهر بالنسبة لى مفارقة ربما تكون دالة أكثر من دلالة صعقة الاحتقار التى قابلها أرمبرست فى نقابة المحامين، فعندما غنت البنت وأمها «زحمة يا دنيا زحمة» وتبادلتا الكلمات، كان ذلك تعبيرا منهما عن حالة من الزهق والقرف والإرهاق، مؤكد أنهما لم تقصدا كل المعانى التى ذهب إليها الباحث الأمريكى، وهذا طبيعى بالفعل، فهما تعبران عن حالهما، وهو يعبر عما يفهمه، لكننى أرى أنه قام بتحميل ظاهرة عدوية بأكبر مما تحتمل، أو على الأقل كان يحمل على الذين يتفاعلون مع عدوية بأكثر مما يحتملون.
وهو يباشر بحثه، كان أرمبرست يتعرف على أصدقاء، ومن بين أصدقائه عائلة تضم فريد وابن عمه نبيل وعمتهما فتحية وابنتيها خديجة ووداد- لست فى حاجة لأن أقول لك إنه غير الأسماء حفاظا على خصوصية أصحابها- قضى معهم يوما فى القناطر الخيرية بطقوسه المصرية الخاصة جدا، وهى الرحلة التى لم تخل من عدوية.
يقول أرمبرست: فى نهاية يوم الرحلة، تبدأ فرقة موسيقى الروك فى العزف على سطح المركب، فتحية تبتسم بأدب، ولكن وداد متعبة جدا، أما خديجة والمدرس فريد ونبيل فيستمتعون بالعرض، تنتهى الموسيقى بعد ذلك بفترة وجيزة، ولكن الطلاب غير المراقبين يحضرون جهاز تسجيل ويبدأون فى تشغيل شريط كاسيت للمطرب الشعبى أحمد عدوية، كل أغانى الشريط سريعة وصاخبة ويغنيها عدوية بصوت خال من العُرب والحليات الموسيقية التى تتصف بها موسيقى عبدالوهاب وغناؤه، تنزعج فتحية قليلا وتعبر عن ذلك بعبارة «بلاش الأغانى الهابطة دى».
فى مواجهة انزعاج فتحية من الأغانى التى تصفها بأنها هابطة، يسجل أرمبرست إعجاب فريد الإسلامى الذى يبدو عليه الاستمتاع بالموسيقى.
الأغنية التى كان يستمع إليها أصدقاء أرمبرست وانشغل فى رصد ردود فعلهم عليها، كانت «يا بنت السلطان».
تقول كلماتها: يا بنت السلطان حنى على الغلبان الميه فى إيديكى وعدوية عطشان على كوبرى عباس ماشية وماشية الناس ماشية تبص عليكى يا فروتة وأناناس إسقينى إسقينى أكتر الميه ف إيدك سكر وسعيدة يا حلوة سعيدة يا اللى بلادك بعيدة نادينى أجيلك ماشى لما لمصر الجديدة.
ما الذى يخرج به أرمبرست من هذا المشهد؟
يقول: كوبرى عباس الذى تشير إليه الأغنية هو الوحيد الذى يحتوى على حارة مخصصة للحيوانات والدراجات فى القاهرة، يعنى ذلك أن هناك حارة للأغنياء وأخرى للفقراء، ويصل الكوبرى بين حى متيسر الحال نسبيا على الضفة الغربية للنيل وعدد من الأحياء الفقيرة على الجانب الشرقى من النهر، وتعكس الأغنية بدورها إحساسا بالمكان من خلال إشاراتها لحى مصر الجديدة، وهو حى بعيد تماما عن كوبرى عباس، ويعنى ذلك أنه يقصد أنه يقول لها إنه سيتبعها حتى نهاية العالم فى مصر الجديدة، وهو مكان بعيد بشكل كاف ليصعب المواصلات على أى إنسان لا يمتلك سيارة خاصة.
لاحظ أرمبرست أن معظم الناس على مركب العودة من القناطر يندرجون تحت ذلك التصنيف من الناس بشكل مثالى: راكبو المواصلات، والناس الفقراء المفقودون فى الزحام، والشباب الذى يبحث عن الفتيات دون أى أمل فى الزواج، وعندما تبدأ الأغنية فى الاشتعال، تظهر فتاة فى مؤخرة المركب بملابس ضيقة وترقص، ولا أحد ينضم إليها فى الرقص، ولكن معظم الشباب على المركب يصفقون بحماس وتقدير، وتستنكر فتحية ذلك بعبارة «عيب».
لم يكن ما فعله أرمبرست حتى الآن إلا مقدمات ليصل إلى ما كتبه تحت عنوان «المغنى الهابط».. وهنا احتكاك أكثر مباشرة بظاهرة عدوية.
يقول عنه: لا يستخدم عدوية تقنيات الصوت التى تميز الموسيقى العربية الكلاسيكية، مثله فى ذلك مثل حمدى بتشان، وهو يعتمد بدلا من ذلك على مساحة صوته وحده وقدرة تصاعده، وتتراوح نغماته ما بين السريع جدا والبطىء جدا، وكلها على «الواحدة ونص»، وهى النغمة الجماهيرية التقليدية، بل يقوم الكثير من أغانى عدوية على الاستعارة الصريحة من الفلكلور فى الكلمات والنغمات على حد سواء.
يعرف أرمبرست أن هناك كثيرين يرفضون عدوية، وبعين باحث لا ينحاز إليهم ولا يرفض كلامهم، لكنه فقط يحاول أن يفهمهم، يقول: الذين يعترضون على عدوية يفعلون ذلك لأنهم يرونه نتاجا للغناء فى الملاهى الليلية، ولا يرون فيه أى نموذج للشباب المصرى.
لم يدرس أرمبرست كل أغانى عدوية، اكتفى بسماع شريط واحد هو «عدوية ١٩٩١»، وهو الشريط الذى لم يكن فيه أغنية واحدة جديدة، بل أغان قديمة بتوزيع جديد، فقد كان خارجا لتوه من أزمته الصحية، ولأنه يحب البقاء، فقد لجأ إلى توزيع جديد لأغنياته، حتى يظل موجودا فى السوق، ولذلك فإن كثيرا من تفسيرات أرمبرست لا يمكن أن نعممها على ظاهرة عدوية كلها. لكن هذا لا يمنعنا من تسجيل بعض أفكاره الخاصة جدا، التى يمكن أن نسجلها على هامش قراءتنا لعدوية وما قدمه، ومنها:
أولا: الشىء الذى يقوم به عدوية أفضل من أى مطرب من المنعوتين بالسوقية هو خلط طبقية الإعجاب به بحس جنسى معين.
ثانيا: الشىء المشترك بين معظم أغانى عدوية أنها جميعا تتوجه بشكل مفتوح وكبير لإحساس الطبقات الدنيا.
ثالثا: تكشف أغانى عدوية عن الفجوة الاجتماعية الكبيرة بين الطبقات الاجتماعية المصرية، وهو العنصر المميز للقاهرة الحديثة. ودون أن يذكر اسمه أثبت أرمبرست دفاع الموسيقار هانى شنودة عن عدوية، أشار إليه بأنه الموسيقى الذى لحن أغنية «زحمة يا دنيا زحمة»، ونقل عنه: أنا لا أعتبر عدوية سوقيا، وما معنى السوقية عموما؟، أعتقد أنهم يتهمونه هذا الاتهام بسبب عدد محدود من الأغنيات، ولو كنت أنا إنسانا عاقلا فماذا سأسمع؟، هل سأسمع عدوية أم سأسمع مغنيا فى التليفزيون يغنى «بحبك يا عمرى» (يشير هنا إلى هانى شاكر)، أنا أعتقد أن الموسيقى التليفزيونية هى السوقية فى الحقيقة، فهم يغنون دائما «بحبك يا عمرى» وهى تبدو فى الظاهر كلمات أدبية رفيعة، ولكنها فى الحقيقة ليست كذلك، تحت السطح هى معان سوقية، إن جاز لى استخدام تعبيرهم.
يواصل هانى شنودة تفكيك اتهام عدوية بالسوقية، يقول كما نقل عنه أرمبرست: الأفضل أن نغنى أغنية شبابية جماهيرية كأغنية عدوية «زحمة يا دنيا زحمة» التى يفهمها الجميع، أم هل من الأفضل أن نستمع لأغنية عبدالوهاب التى تعلن أن الدنيا سيجارة وكأس؟، أنا لا أمنع أحدا أن يشرب أو يدخن إن شاء، ولكن العالم ليس كذلك، ومع ذلك وإن غنى عدوية بعض الأشياء الخارجة نسبيا عن مألوفنا، لا يمكن لأى إنسان أن يعلن أنه أسوأ من أم كلثوم، فهى تدعو حبيبها فى بعض الأغانى أن تنهى حبها معه فى ليلة واحدة، وهى دعوة لممارسة الحب، فلا يمكن أن نقول إن أغنية ما سوقية بسهولة.
وكما خضعت تجربة عدوية إلى دراسة محايدة من «والتر أرمبرست» كان هناك تقييم لتجربة كشك بعين غربية، صاحبها كاتب ومؤلف، يقولون إنه كان ضابط مخابرات فرنسية، وهذه قصة أخرى.