رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الغيرة بين المثقفين».. مشاهد خاصة من الاعتصام ضد علاء عبدالعزيز

السماح عبدالله
السماح عبدالله

- قدمنا عرضًا راقصًا فى اعتصام وزارة الثقافة وسط استهجان البعض

كانت حديقة مكتب وزير الثقافة بشجرة الدر أيام الاعتصام، تشهد ندوات شعرية مرتجلة، وحلقات نقاشية تقام من تلقاء نفسها، وبروفات لمشاهد تمثيلية تدريبية، وبعضُ أبطال هذه الندوات والحلقات والبروفات، أحيانا، كانوا يتسللون للسلالم والممرات، فإن لم يتح لهم مكان، كانوا يقيمون أنشطتهم فوق سور السلم.

كانت بعض الفرق المحترفة تأتى لتعرض فنونها أمام المبنى فى مساءات يونيو الحارة، فيلتف الناس فى الشارع ليشاهدوا – مجانا – عرضا للباليه، أو عزفا منفردا على آلة الفلوت، تقدمه إحدى الطالبات النحيفات، وهى ماسكة فلوتها، وضاربة فى الموسيقى. ونحن، المعتصمين المحترفين، كنا نشاهد هذه العروض فنأسى على حالنا، أيُفْعَلُ ذلك كله من أجلنا ونحن صامتون؟، حينئذ قررت أن نضرب بسهمنا فى مثل هذه الأمور، فنحن، قبلا وبعدا، وعلى أى حال، مبدعون، ونستطيع بقدر قليل من الجهد أن نفعل كل شىء، غناء وعزفا وتمثيلا.
تذكرت وأنا طفل فى مدرسة فاطمة الزهراء الابتدائية بسوهاج، كيف كان مدرس التمثيل، وقت أن كان هناك مدرس للتمثيل، يوقفنى على خشبة مسرح المدرسة، وقت أن كان للمدرسة خشبة مسرح، ويتفرج علىّ وأنا لابس ملابس بدوية، وأذرع المكان جيئة وذهابا، وأنا أشوح بيسراى تارة وبيمناى تارة أخرى وأغنى بصوت كالسلسبيل: أطلقوا نوق الفلا.. إنها تنوى الرحيل، وكان يصفق لى بانبهار حقيقى.
وبالرغم من أننى لم أكن أعرف معنى كلمة النوق ولا الدلالات الإيحائية لكلمة الفلا، إلا أننى كنت متأكدا من أن ثمة رحلة ما فى انتظار نوق الفلا هذه، وربما تخيلتها مركبة فضائية.
وقفت فى منتصف بهو مكتب الوزير علاء عبدالعزيز، ورفعت يدى فى إشارة لأن يستمع الجمع المجموع لما سأقوله، وعلّيت صوتى وأنا أقول:
يا جماعة، ما رأيكم لو كوّنا فريق تمثيل وفريق رقص وفريق غناء، منا نحن الشعراء والنقاد والروائيين؟
من الواضح أن الشعراء والنقاد والروائيين كانوا يحبون شعرهم ونقدهم ورواياتهم أكثر مما ينبغى، ومن الواضح أنهم لا يحبون التجريب، لكن الرواد الأوائل دائما ما يكونون مصرين على تحقيق أهدافهم، يا أخى، حتى الأنبياء كان الناس لا يلبون نداءهم فى أول الأمر، وكانوا يصرون على كفرهم، انظر الآن إلى حتمية التطور التاريخى، ستكتشف أن الكفار أنفسهم، قد تحولوا إلى مؤمنين، وهو ما حدث معى.
بعد أن أشاح عنى الجميع، كطبيعة الكفار، سرعان ما تسلل لى بعض من أنار الله قلوبهم بنور الحق، وسرعان ما عرضت عليهم رسالتى، وبدأنا نوزع الأدوار، وبدأنا نقيم البروفات، وبدأنا نغنى، ونعزف، ونرقص.
كان يمر علينا ونحن فى آنائنا البروفاتية فنانون محترفون، مثل المخرج خالد يوسف، والفنان سامح الصريطى، والمخرج مجدى أحمد على، ينظرون لنا من فوق لتحت، ويعبروننا مندهشين، أنا أعرف بطبيعة الحال أن الغيرة تأكل قلوبهم، وأمنح لهم الحق كاملا فى هذه الغيرة، لكننى لم أكن أتوقع أبدا أن تصل غيرتهم إلى حد تكسير مجاديفنا، الأمر الذى نتج عنه انسحاب كثير من أعضاء فرقتى الناشئة، ولم يتبق مؤمنا بى غير شاب ألثغ فى واحد وعشرين حرفا، ويتهته فى الكلام، أنا أصلا قبلت انضمامه زيادة عدد، لم أيأس، وواصلت دعوتى.
عندما زارتنا الفنانة «زبيدة ثروت»، كان الزمن قد فعل أفاعيله معها، لكن عينيها لا تزالان ساحرتين، تماما كما كان ينظر إليهما السيد المبجل «عبدالحليم حافظ»، وهو يقول لها بكثير من الهيام:
وأنا وعيونك الحلوة.. نعيش قصة غرام حلوة
حرام نسكت علـى قلوبنا.. حرام الشوق يدوبنا.
نظرت إلى عينيها سالفتى الذكر، وقلت لها وأنا أمسك بأصابع يمناى إصبع يسراى الخنصر، كما كان يفعل العندليب، وقلت لها بنبرة غنائية:
لقد كونا فريقا للتمثيل تابعا للمعتصمين، وسوف نقدم عرضا كبيرا فى البهو، ونريدك معنا كبطلة لهذه الفرقة.
يا سبحان الله، وكأن عينيها هما نفس عينيها وهى فى (يوم من عمرى)، ابتسمت ابتسامة خفيفة، وقالت بأن هذا شىء رائع، وعقبت وهى تنظر لى نظرة شبيهة بنظرتها التى كانت تنظرها للعندليب وهى تتمرجح على الكرسى الهزاز:
لا بد أن أحضر هذا العرض.
وتركتنى ومضت لتلحق باجتماع اللجنة التحضيرية التى كانت تنعقد يوميا بلا أى مبرر موضوعى، حيث يقرأ المخرج «مجدى أحمد على» على الزملاء الصحفيين القرارات الجديدة للمعتصمين المصرين على اعتصامهم.
أما عندما زارتنا الفنانة «سميرة أحمد»، فقد صحبتها بعد انتهاء اللجنة التحضيرية من أعمالها التى لا تريد أن تنتهى، لكى أوصلها إلى الباب، كان ثمة مأزق من نوع خاص، فسيارتها لا تستطيع الوقوف أمام البوابة الرئيسية لمكتب الوزير لدواع أمنية، فقد كان رجال الأمن يفصلون بيننا وبين مؤيدى الإخوان بحواجز تمنع دخول السيارات، وهى بحكم حالتها الصحية لا تستطيع أن تمشى كثيرا للوصول للسيارة، لذلك اقترحت عليها أن تتصل بسائقها، ليلف ويأتى إلى الباب الخلفى الذى وصفته لها.
فى سور مكتب الوزير، وفى الجهة المطلة على كورنيش النيل، يمكنك أن تقف بكل هدوء، وتمد يدك بين حديد السور، وتشد ترباسا صغيرا، لينفتح باب سرى شديد الصغر، يبدو أن موظفى مكتب الوزير اخترعوه اختراعا، لكى يَدخلوا ويَخرجوا، ويُدْخِلُوا ويُخْرِجُوا من يريدون إدخالهم وإخراجهم دون إجراءات أمنية، ويبدو أن وزراء الثقافة المتعاقبين لا يعرفون شيئا عن هذا الباب السرى، وأنا أفتح لها هذا الباب، قلت لها:
لقد كونا فريقا فنيا، ونريدك معنا.
ضحكت وقالت: ومن المخرج؟
بكثير من التواضع أجبتها: أنا.
قالت وهى تغادر: ستكون فرقة عظيمة طبعا.
وعقبت وهى تدخل فى السيارة: سلام.
وهكذا، كان علىّ أن أتصرف، فوقفت، فى بهو مكتب الوزير، أمام الصديقة العزيزة الروائية «فتحية العسال»، والصديق العزيز الناقد «أحمد مجاهد»، والصديق العزيز الناشر «محمد هاشم»، وبدأت أقدم عرضا راقصا وحدى.
ما إن اندمجت فى الرقص، حتى انضم لى الصديق العزيز الناقد «صلاح السروى»، ورآنا آخرون، فتشجع واحد منهم، لا أعرف اسمه وانضم إلينا، ودخل ابنى «شادى» من الباب، فانضم لى بحكم البنوة، ورأتنا سيدة ألمانية، فتقدمت لتشاركنا رقصنا، طبعا الألمانيات، فى غالبيتهن، يمتن فى الرقص، بينما المصريات، فى غالبيتهن، يمتن فى النكد، لذا لم تنضم إلينا منهن وحدة، وجاء الصديق الشاعر «زين العابدين فؤاد»، الذى كان يوثق كل أحداث الاعتصام بصوره الفوتوغرافية، فالتقط لنا صورة جماعية ونحن فى حال الرقص.
وسيذكر التاريخ، أننى إلى جانب شاعريتى، كنت فنانا موهوبا، قبل أن أبلغ العاشرة من عمرى، وأنا بعد طالب فى مدرسة فاطمة الزهراء الابتدائية، أغنى كلاما لا أفهم معناه، وحتى وأنا على مشارف الخمسين، حين قدمت عرضا راقصا، لا شك أنه كان فاتنا، ولا شك أنه سيوضع فى السى فى الخاص بى.