رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«إرهابى ميلانو».. القصة الحقيقية لـ«أبوعمر المصرى»


اسمه بالكامل، أسامة مصطفى حسن نصر، وكنيته أبوعمر المصرى، مواليد الإسكندرية، عام ١٩٦٣. سيرة هذا الرجل عادت بقوة، مع بدء عرض مسلسل يحمل اسمه، خلال الموسم الدرامى الرمضانى الحالى، والذى يقوم ببطولته الفنان أحمد عز، وهو عمل مأخوذ عن رواية تحمل الاسم ذاته، للأديب عزالدين شكرى فشير.

قبل يومين، اشتعلت النار حول صنّاع العمل بعد بيان سودانى اتهم المسلسل بالإساءة للعلاقات بين البلدين، بأن «ألصق تهمة الإرهاب ببعض المواطنين المصريين المقيمين أو الزائرين للسودان، وأظهر أن بعض أجزاء السودان كانت مسرحًا لعمليات التنظيمات الإرهابية»، قبل أن ترد شبكة قنوات «أون»، التى تعرضه، ببيان أكدت خلاله، أن «العمل بنى على وحى وخيال مؤلفه، ولم يحتوِ على مشاهد أو تلميحات للدولة السودانية أو حكومتها أو الشعب السودانى الشقيق».

كنت قد تعرفت على أبوعمر المصرى بعد صدور رواية «فشير» فى القاهرة، فأكد أن «الرواية تحمل ٩٠٪ من سيرته الشخصية».
وقتها تركت الرواية جانبًا، وأخذت أبحث خلف حكاية الرجل الذى شغل الدنيا بين عامى ٢٠٠٣ و٢٠٠٤ حين تعرض للاختطاف فى إيطاليا على يد عناصر من المخابرات المركزية الأمريكية، فيما عرف بـ«فضيحة السجون الطائرة» التى قيل إن وكالة المخابرات الأمريكية اضطلعت بها، من خلال اختطاف ونقل مطلوبين لديها من أماكن مختلفة فى أوروبا. هذا هو أبوعمر المصرى كما وجدته.
وهذه هى أقواله كما صرح بها هو.

تورط فى مؤامرة لاغتيال عمرو موسى.. وشهادة: عمل جاسوسًا على الإسلاميين
نحن الآن فى صيف عام ١٩٩٥.
طائرة وزير الخارجية- آنذاك- عمرو موسى تستعد لرحلتها إلى ألبانيا.
اتصل ضابط المخابرات المركزية الأمريكية المعنى بمتابعة نشاط المتطرفين فى ألبانيا «مايك»، من مكتبه فى السفارة الأمريكية بعدد من رجاله فى المخابرات الألبانية.
لا بد من لقاء على عجل.
فى الاجتماع تحدث «مايك» عن معلومات تشير إلى اعتزام متطرفين إسلاميين اغتيال عمرو موسى، لدى وصوله تيرانا عاصمة ألبانيا، وقدم لنظرائه فى المخابرات الألبانية قائمة بأسماء يتعين اعتقالها لـ«أسباب وقائية»، إلى جانب أرقام ٣ سيارات «لاند روفر»، تابعة لجمعية خيرية إسلامية تُدعى «وكالة الإغاثة الإنسانية والتعمير»، يديرها أسامة رشدى، المتحدث السابق باسم الجماعة الإسلامية - كان من المرجح استخدامها فى عملية الاغتيال.
تحركت السلطات الألبانية لتنفيذ الاعتقالات- شملت القائمة المقدمة من ضابط المخابرات المركزية أسماء ١٣ عضوًا تابعين للجماعة الإسلامية فى مصر وتنظيم الجهاد المصرى وفق شهادة لـ«أبوعمر» نفسه - وبدأت البحث عن السيارات الثلاث.
ظُهر السابع والعشرين من أغسطس ١٩٩٥، عثرت المخابرات الألبانية على سيارة من السيارات الثلاث فى موقف عام، وعند فتحها تبين أنها لم تستخدم منذ وقت.
بعد البحث عن اسم الشخص الذى سجل السيارة فى «دفاتر المرور»، تبين أنه يُدعى «أسامة مصطفى حسن نصر»، مصرى الجنسية.
لم يكن اسم «أسامة» موجودًا على القائمة التى قدمها «مايك» للمخابرات الألبانية، ومن ثم ترددوا فى اعتقاله.
ما الذى حدث؟
اتصلت المخابرات الألبانية بـ«مايك»، الذى حضر إلى تيرانا، لفحص السيارة، وحين أبلغوه باسم «أسامة»، ولم يكن قد سمع به من قبل، طلب اعتقاله على أى حال، وهو ما جرى فى مساء نفس اليوم، حين توجهت قوة أمنية إلى منزله واعتقلته ونقلته بهدوء إلى سجن صغير فى قلب العاصمة تمهيدًا لاستجوابه.
فى اليوم التالى بدأ الاستجواب. ويقول الضابط الألبانى الذى أشرف على التحقيق مع «أسامة» ويُدعى آستريت ناصوفى، فى شهادة منشورة ٤ يوليو ٢٠٠٥، إن «أبوعمر» أنكر أى صلة بمحاولة اغتيال عمرو موسى.
يقول «ناصوفى»: «كان أسامة يرفض الكلام فى البداية، ولكنه غيّر رأيه بعد عدة أيام، فقال إنه عضو فى الجماعة الإسلامية فى مصر، وذكر أسماء ١٠ أشخاص يعملون فى منظمات إسلامية أخرى وينتمون أيضًا إلى الجماعة الإسلامية».
بالنسبة إلى ضابط المخابرات الألبانية: «كان ذلك مفاجأة، لأننا لم نستخدم معه أى ضغوط. وقد قال لنا إنهم يعتبرون ألبانيا فندقًا آمنًا لأنهم يرغبون فى العمل بعيدًا عن مطاردة السلطات المصرية، وأكد أنه لا توجد أى مؤامرة لاغتيال عمرو موسى لأنهم يعرفون أن ذلك سيكلفهم إقامتهم فى ألبانيا».
قدم «أبوعمر» ما يمكن وصفه بـ«ملف متكامل» عن نشاط الجماعة الإسلامية فى ألبانيا.
فى هذه الأيام عاد ضابط المخابرات المركزية «مايك» إلى واشنطن، وحل بدلًا منه فى قيادة عمل «CIA» بألبانيا الضباط «فرانسيس»، الذى تلقى صورة من ملف اعترافات «أسامة»، وقد ذهل من دقة وحجم المعلومات التى قدمها السجين - وفق شهادة «ناصوفى» - ليس فقط عن وجود الجماعة الإسلامية فى ألبانيا، ولكن عن هيكل الجماعة ذاتها فى مصر.
قرر «فرانسيس» تجنيد «أسامة» كمصدر للمعلومات ووافق الأخير- كما يقول الضابط الألبانى الذى تولى تقديم العرض إلى «أبوعمر» - وحدث لقاء بين الرجلين.
بعد «الصفقة» أفرج عن «أبوعمر»، وتعمقت العلاقات بينه وبين المخابرات الألبانية والأمريكية، إذ عمل على جمع معلومات عن تنظيمات الجماعة الإسلامية فى بريطانيا وألمانيا وإيطاليا، وقدمت الأجهزة بعض المساعدات لـ«أسامة» الذى تزوج ألبانية تُدعى مارسيلا جلينا.
استمر التعاون، وكانت المخابرات المركزية تفحص معلومات «أبوعمر» بدقة عبر مقارنتها بمعلومات السلطات المصرية ومصادر أخرى، وفى كل مرة كان يتبين أنه يقدم بالفعل معلومات بالغة الدقة.
هل نغلق باب الحقيقة؟
هل نقول إن «أبوعمر» كان عميلًا للمخابرات المركزية؟
هل نحكم على المتهم دون سماع شهادته؟
لنقرأ الإجابة فى حوار أجرته صحيفة «الوفد» مع «أبوعمر» عام ٢٠٠٧ بعد أن أفرج عنه فى مصر وهذه قصة سنعود إليها بعد قليل.
يقول «أبوعمر»: «غادرت مصر عام ٨٩ عقب الإفراج عنى حيث توجهت إلى الأردن ومكثت بها مدة شهرين تقريبًا عملت فيها بصورة متقطعة، لم أشعر خلالها باستقرار أو فائدة اقتصادية ذات جدوى، فرحلت عنها إلى صنعاء عاصمة اليمن حيث عملت بإحدى المكتبات التى تبيع الكتب الجامعية، ومكثت بصنعاء ستة أشهر، حصلت بعدها على فرصة عمل بباكستان بإحدى الهيئات الإغاثية، لكننى اكتشفت كثيرًا من الأمور التى تسير بطريقة غير مشروعة، خاصة ممارسات قيادات تلك الهيئة، مما دفعنى إلى ترك العمل بتلك المؤسسة الإغاثية وباكستان كلها متوجهًا إلى ألبانيا التى كانت قد تحررت من قبضة الاتحاد السوفيتى، وتوسعت بها رقعة الديمقراطية والحريات العامة، وعملت هناك فى مجال المؤسسات الخيرية لمساعدة الألبان، واتجهت بعد ذلك للعمل التجارى، ومن هنا بدأت المخابرات الأمريكية تترصدنى عن طريق المخابرات الألبانية التى ألقت القبض علىّ لمعرفة أنشطتى التجارية التى بدأت تكبر وتنمو، وفوجئت بطلب المخابرات الألبانية تعرض علىّ العمل معهم كمرشد على العرب والمسلمين الموجودين فى ألبانيا، وعرفت أن هذا الطلب جاء أساسًا من المخابرات الأمريكية بغطاء ألبانى، الأمر الذى دعانى إلى الهرب من ألبانيا كى أنفد بجلدى، فتركت كل ما أملك وتجارتى التى ازدهرت، وأخذت زوجتى الألبانية المسلمة وطفلتى سارة وكان عمرها عامين ونصف العام وكانت زوجتى حاملًا فى ولدى عمر».

وفى حواره مع «الوفد» تجاهل محطة أفغانستان التى كان قد وصل إليها قادمًا من اليمن حيث تدرب فى «معسكرات الجهاد» بعد أن أبدى رغبته فى القتال ضد السوفييت، وهناك تلقى دورات خاصة بتأهيل «العناصر الإرهابية» وتعرف على قادة الجناح المسلح للجماعة الإسلامية.
أما قصة القبض عليه فى مصر فتستحق أن نعود إلى عام ١٩٨٤.
انضم «أبوعمر» إلى حزب الوفد الجديد منذ تأسيسه عام ٨٤، وشهد مؤتمر إعلانه فى الإسكندرية وقتها، وأصبح عضوًا فى لجنة الفكر والدعوة تحت رئاسة القبطان مدحت الهرميل.
وكما يقول فإنه «من أسرة وفدية فكان جده حسن نصر من رجال الوفد القديم وعندما رزق جده بوالده أراد تسميته مصطفى النحاس، إلا أن موظف السجل المدنى فى تلك الفترة كان من حزب السعديين فرفض تسجيل الاسم بدعوى عدم جواز تسجيل الأسماء المركبة واقتصر على تسميته مصطفى».
تأثر «أبوعمر» بالمد الإسلامى فى الإسكندرية، خلال هذه الفترة، وبخاصة شيوخ الدعوة السلفية ياسر برهامى، وأحمد حطيبة، وسعيد عبدالعظيم، إلى جانب وجدى غنيم، وأحمد المحلاوى، فمال إلى المجموعات الإسلامية، وكان يلقى خطبة الجمعة فى أحد مساجد الجماعة الإسلامية فى منطقة باكوس بالإسكندرية.
اعتقل «أبوعمر» مرتين عامى ٨٨ و٨٩، قضى فى كل مرة منهما ستة أشهر، وذلك بسبب علاقاته مع الجماعة الإسلامية، وحين خرج من السجن كان قد قرر مغادرة البلاد، وقد خرج عبر جواز سفر من كلية الحقوق جامعة الإسكندرية، التى كان يدرس بها، مدته ٦ أشهر، كونه ما زال طالبًا بالكلية.
وبينما لم يتطرق «أبوعمر» فى حواره مع «الوفد» إلى قصة مؤامرة اغتيال عمرو موسى فإنها عرج عليها فى حوار له مع موقع «٢٤» الإماراتى، ٥ مايو ٢٠١٨، من داخل منزله بمنطقة محرم بك فى الإسكندرية.
أنقل هنا نص ما جاء فى مقدمة حوار «٢٤»: «لم يتردد أبوعمر المصرى فى أن يكشف عن أخطر قضية تم اتهامه فيها، داخل ألبانيا عام ١٩٩٥، وهى محاولة اغتيال وزير الخارجية المصرى، عمرو موسى، بعد أن كشفت خيوطها المخابرات الأمريكية المركزية بالتنسيق مع المخابرات الألبانية».
أعاد «أبوعمر» سرد القصة بنفس المعلومات السابقة تقريبًا، وقد أشار إلى أن «المخابرات الألبانية طالبته بالتعاون معها ليكون عينًا لهم على نشاط المتشددين داخل ألبانيا».
ويقول إنه بعد محاولة المخابرات الألبانية استمالته للعمل معها هرب، غير أنه لم يحدد إن كان قد تعاون معهم بالفعل قبل الهروب أم لا؟، وإن كان قد وافق على العرض فى الأساس أم لا؟.

الهروب إلى ألمانيا ثم إيطاليا.. والعمل إمامًا لمسجد
كانت هذه نقطة الضوء الأولى فى حياة «أبوعمر» المصرى، فما الذى حدث بعد ذلك؟.
توجه «أبوعمر» إلى ألمانيا مع زوجته وابنته سارة دون إبلاغ أحد، ونزل فى مطار ميونخ طالبًا اللجوء السياسى، وظل هناك حتى عام ٩٧ حين رفض طلبه للجوء السياسى.
فى هذه الفترة حدث الانفصال بينه وبين زوجته التى فضلت العودة إلى ألبانيا ومعها طفلاه سارة وعمر (كانت قد أنجبت الأخير بعد الهروب من ألبانيا)، ومن ألمانيا عاود «رحلة المطاردة» وتوجه إلى إيطاليا- اضطر إلى دخول روما عن طريق القطار- حيث جدد التقدم بطلب اللجوء السياسى وحصل عليه فعلًا فى عام ٢٠٠١ بعد عامين من البحث والتحرى عنه.
فى ميلانو بإيطاليا عمل إمامًا لمسجد المدينة، وهناك بدأت «أسطورة الإمام المُخْتَطَف».
يقول «أبوعمر» فى حوار «الوفد»: «شعرت بالاستقرار فى إيطاليا، وتزوجت من سيدة مصرية فاضلة مقيمة بإيطاليا وحصلت على الجنسية الإيطالية.. ارتبطنا وتزوجتها وتوليت التدريس والشرح للدروس الفقهية فى المسجد، بالإضافة إلى خطبة الجمعة حيث كنت أنتقد السياسة الأمريكية فى تأييدها غير المشروط لإسرائيل وإقرارها جرائم الصهاينة فى فلسطين».
كان «أبوعمر» قد انضم، بعد وصوله ميلانو، إلى المعهد الإسلامى، برئاسة الحسينى حلمى عرمان، القيادى بالجماعة الإسلامية، المكنى بـ«أبوعماد المصرى»، وشارك فى إصدار مجلة «صوت الحق»، وتولى نشرها بين المسلمين العرب.
جاءت تقارير المخابرات الإيطالية لتشير إلى أن «أبوعمر» يُلقى خطبًا بالغة التشدد فى المعهد الإسلامى بميلانو، ويركز فيها على كراهية الولايات المتحدة الأمريكية.
هذا ما جعل المخابرات الإيطالية، بالتنسيق مع المخابرات الأمريكية المركزية، تضعه تحت المراقبة التى تضمنت التنصت على مكالماته الهاتفية، بوضع جهاز تسجيل فى شقته، ضمن خطة لرصد نشاط الإسلاميين المتشددين.
هل ندخل إلى منطقة الجد؟
يقول «أبوعمر»: كنت أنتقد سلوك أمريكا فى الشرق الأوسط عمومًا، واحتلالها العراق، ومن هنا بدأت المخابرات الأمريكية تضعنى مرة أخرى تحت الملاحظة لما سببته لها من إزعاج فى وجود تجمع للشباب المسلم بشكل كثيف فى ميلانو، الأمر الذى دعا الـ«CIA» للتدخل بشكل مباشر لخطفى من أحد شوارع ميلانو يوم ١٧٢٢٠٠٣.
لنقترب من الصورة أكثر.
«خرجت يوم ١٧ فبراير ٢٠٠٣ من منزلى سيرًا على الأقدام متوجهًا للمسجد لأداء صلاة الظهر، فشاهدت سيارة بيضاء كاميون (فان) بصندوق أبيض حمولة ٢ طن ولكننى لم أعرها اهتمامًا، ومرت هذه العربة أمامى وأثناء اقترابى من المسجد فى شارع جانبى جاءت سيارة فيات ١٢٧ حمراء اللون، وتوقفت فجأة بجانبى ونزل منها شخص ملامحه أمريكية، وطلب منى التوقف وأبرز لى كارنيهًا لم أستطع التأكد من بياناته، وسألنى عن أوراقى الثبوتية (بطاقتى وإقامتى وجواز سفرى) ثم اتصل بآخرين من هاتفه الجوال وأملاهم بياناتى.. لاحظت أنه يتحدث بلكنة أمريكية، وطلب منى التوجه إلى الرصيف المقابل، وكان ظهره لحائط فى الشارع وظهرى لطريق السيارات وأثناء حديثى معه شعرت بأن هناك من يرفعنى بقوة من على الأرض ويقذفنى داخل السيارة الكاميون البيضاء التى رأيتها منذ دقائق، ورأيت بداخلها شخصين ضخمى الجثة عملاقين ملامحهما إيطالية، حاولت المقاومة لكن دون جدوى، حيث أمسك بى أحدهما من رقبتى وأخذ يخنقنى والآخر يضربنى بقوة فى بطنى وكل أنحاء جسمى حتى خارت قواى ودفعانى إلى أرض السيارة».
يواصل «أبوعمر»: «فى هذه اللحظات رأيت الموت وشعرت بتبول غير إرادى، ثم قاموا بتغطية وجهى وتغمية عينى، وهنا شعرت بالاحتضار وخرج منى خوار كخوار الثور، فصرخ أحدهم فى زميله وقاموا بسرعة بتمزيق ملابسى وتدليك قلبى لإنقاذى من الموت، ووضع الآخر لمبة بطارية على عينى بعد أن نزع الغمامة ليتحقق من أننى على قيد الحياة، وبعد أن تأكدوا أننى ما زلت على قيد الحياة غطوا وجهى مرة أخرى وتركونى فى السيارة التى سارت نحو ٣ أو ٤ ساعات قبل أن تتوقف، وسمعت الباب يفتح وأخرجونى وحملونى من يدى وقدمى ووضعونى لا أدرى فى سيارة أخرى أم طائرة؟ حيث مكثت لمدة ساعات ثم أنزلونى مرة أخرى وحملونى وأدخلونى مكانًا سمعت فيه أصوات طائرات، وكان هذا المكان باردًا جدًا، وعرفت بالإحساس أننى فى أحد المطارات، بعد ذلك قاموا بنزع ملابسى ووضعوا شيئًا فى فتحة الشرج كسدادة وألبسونى أفرول تقريبًا غير مكتمل الأكمام وبنطلونه قصير، ثم نزعوا الغمامة من على عينىّ والتقطوا لى صورًا فوتوغرافية سريعة، فرأيت أمامى عددًا كبيرًا من الأفراد يرتدون ملابس القوات الخاصة ويرتدون أقنعة على وجوههم، ثم قاموا بوضع شريط لاصق عريض على كل وجهى، وقاموا بتقييد يدى من الخلف بقيود بلاستيكية وحملونى على طائرة رقودًا على أرضها، حيث سمعت أصوات موسيقى، ثم وضعوا سماعة على أذنى لإغلاقها ولم أسمع شيئًا، ولكنى شعرت أنهم ربطوا إصبع قدمى فى سلك كهربى أعتقد أنه كان موصلًا بأحد الأجهزة للاطمئنان على قلبى أثناء الرحلة، وبقيت على هذه الحالة، وأنا أصرخ من الألم لمدة ٨ ساعات».
إلى أين ذهب الرجل؟
يقول: «أفقت من خيالاتى بعد نحو ٧ ساعات على هبوط الطائرة إلى المطار، حيث قاموا مرة أخرى بتشديد القيود البلاستيكية وأحكموا قبضتها حتى أدى ذلك إلى حدوث جروح فى يدىّ وقدمىّ، وحملونى بقسوة شديدة ونزلت من الطائرة على سلم يتكون من ٣ أو ٤ درجات فقط، فعرفت أننى فى طائرة عسكرية صغيرة وليست طائرة مدنية، وهنا سمعت صوتًا يتحدث باللهجة المصرية، فعرفت أننا فى مطار القاهرة.. ومكثت عدة أشهر تعرضت فيها للتحقيق المكثف، ثم نقلت لمبنى آخر عرفت بعد ذلك أنه مباحث أمن الدولة حتى تم عرضى على نيابة أمن الدولة فى شهر أبريل ٢٠٠٤ التى أمرت بإخلاء سبيلى، وبالفعل تم الإفراج عنى وعدت إلى بيتى بالإسكندرية».
وما لم يكن يعرفه «أبوعمر» أن رحلة اختطافه بدأت من ميلانو، وبعدها نقل إلى قاعدة «أفيانو» العسكرية الأمريكية شمال شرق إيطاليا، ومنها إلى ألمانيا عبر طائرة نقل عسكرية تحمل اسم «سبير ٩٢»، ومنها إلى مصر على متن طائرة «جولف ستريم».
وما لم يقله إنه كان متهمًا بالتورط فى تجنيد وتسهيل انتقال إرهابيين إلى معسكرات فى العراق، للتدريب هناك قبل انتقالهم إلى أفغانستان للانضمام إلى تنظيم القاعدة.

اتصال مع زوجته يكشف قضية الاختطاف.. وحكم بالسجن لتورطه فى تجنيد إرهابيين
وصل «أبوعمر» إلى الإسكندرية، وكانت زوجته لا تزال تبحث عنه فى ميلانو، بعد أن تقدمت ببلاغ إلى المدعى العام الإيطالى يفيد باختطاف زوجها، مستندة إلى روايات شهود تابعوا عملية الخطف.

اجتهدت السلطات الإيطالية لإثبات عدم صحة واقعة الاختطاف، حتى وقعت المفاجأة التى هددت علاقات واشنطن وروما.
كانت الأجهزة الأمنية الإيطالية قد وضعت هاتف زوجة «أبوعمر» تحت المراقبة، وحدث أن التقطت اتصالًا أجراه الرجل بزوجته بعد سنة كاملة من اختفائه، أخبرها فيه بما حدث، فانقلبت الأحداث.
يحكى «أبوعمر» الواقعة: «عندما تم الإفراج عنى فى أبريل ٢٠٠٤ طلبت منى أجهزة الأمن عدم التحدث مطلقًا مع أى أحد فى موضوع خطفى، إلا أن زوجتى التى كانت موجودة بميلانو فى ذلك الوقت وأصدقائى كانوا يتصلون بى، ووقتها قدرت أن لى مصلحة شخصية بعدم التحدث والإذعان لأجهزة الأمن من جهة، وأن مشكلات قد تحدث لآخرين فى ميلانو لو لم يعلموا حقيقة ما حدث، واحتمالات تكرار أجهزة الاستخبارات الأمريكية حالات خطف أخرى لو بقى الأمر متكتمًا عليه، فاستخرت الله عز وجل وقررت التحدث فأخبرت زوجتى وأصدقائى الذين اتصلوا بى فى تلك الفترة بكل التفاصيل، وكان القاضى الإيطالى الذى بدأ التحقيق فى واقعة اختطافى قد أمر بوضع بعض الهواتف تحت المراقبة، فتم تسجيل هذه المكالمات التى أجريتها وكانت الخيط الأول فى قضية محاكمة عملاء الـ(CIA) وأعاد الأمن المصرى اعتقالى ثانية وأعادنى إلى سجن استقبال طرة، حيث بقيت إلى وقت الإفراج عنى مؤخرًا فى ١١ فبراير الماضى (يقصد فبراير ٢٠٠٧) بعد الكشف عن تورط المخابرات الإيطالية فى عملية اختطافى».

بناء على الاتصال تحركت السلطات الإيطالية لجمع خطوط القضية، وبدأت فى اتخاذ خطوات فعلية لفهم ما حدث، كان على رأسها قرار القضاء الإيطالى (٢٠٠٥) القبض على ٢٢ أمريكيًا، وإيطاليين لتورطهم فى القضية، ما تسبب فى أزمة سياسية بين روما وواشنطن.
وفى نوفمبر ٢٠٠٩، قضت المحكمة الإيطالية غيابيًا بالسجن على ٢٢ عنصرًا من المخابرات الأمريكية، وضابط فى القوات الجوية الأمريكية غيابيًا بالسجن بين ٧ سنوات و٩ سنوات، الذين شاركوا فى عملية الاختطاف.وعادت قضية «أبوعمر»، الذى يعيش الآن فى الإسكندرية حرًا بعد إلغاء قرار الإقامة الجبرية الذى كان قد صدر بحقه بعد الإفراج عنه، إلى دائرة الضوء مجددًا فى ديسمبر ٢٠١٣، حين حكمت عليه المحكمة الإيطالية- غيابيًا- بالسجن لمدة ٦ سنوات، فى اتهامات تورطه بتجنيد إرهابيين، وإرسالهم بصورة غير شرعية إلى مخيمات التدريب المسلح خارج إيطاليا.