رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أوراق الخرباوى.. الخطوة الأولى نحو جماعة الإخوان

في بيت العمدة
في بيت العمدة

- بدأت التعرف على «الإخوان» بعدما سمعت مزاعم التعذيب بحقهم

فى نهاية خطبة من خطب الجمعة للشيخ كشك حدثت مفاجأة مذهلة، شىء لم يكن فى الحسبان على الإطلاق ولم يدر فى خلدى أبدًا، فعندما نُودى للصلاة بعد الخطبة وجدتُ الرجل الكبير الذى كان يجلس بجوارى قد انكفأ على وجهه للأمام، فظننته نائمًا فهززته لأوقظه إلا أنه مال على جنبه، أبعدتُ يدى عنه فورًا وأنا فى دهشة كبيرة، ولكن أكثر من يد امتدت إليه فأخذت أبتعد عنهم إلى أن أصبحت خارج دائرة هذا الرجل، ثم استمعت لأصوات تعلو: «لا إله إلا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، الراجل مات يا جماعة، حد عارف الراجل ده؟».
أخذت أبتعد مذهولًا حتى خرجت من المسجد فى الوقت الذى كان فيه الناس يهرولون إلى الداخل ليعرفوا ما الذى حدث، وكان أن أخذت مكانًا بالخارج جلست فيه ثم بدأ الصخب يزداد إلى أن سمعت صوت الشيخ كشك وهو يقول: «وحدوا الله، والناس تردد وراءه: لا إله إلا الله»، وهكذا استمر الحال قرابة نصف الساعة إلى أن أقيمت الصلاة فصلينا ثم انصرفت.

ظللت طوال الأسبوع أرتجف خوفًا من أن يصيبنى الموت فى أى لحظة كما أصاب الرجل الذى مات فى المسجد، أخذت أتذكر ملامح هذا الميت، وأتذكر تلك اللحظة التى ربت فيها على كتفى وهو يطلب منى أن أفسح له مكانًا يجلس فيه بجانبى، وأتذكر تفاعله الكبير مع الشيخ كشك أثناء خطبته، وضحكاته عندما كان الشيخ يطلق نكاته و«إفيهاته» واستدعيت صورة الرجل بعد أن مات، حياة فى عنفوانها ثم موت فى صمته وسكونه. ومع تلك الأفكار عشتُ طوال الأسبوع إلى أن ذهبت لجمعة الأسبوع التالى شغوفًا لمعرفة ماذا سيقول الشيخ، وبدأت الخطبة بالمقدمة المعتادة للشيخ التى يقول فيها: «نحن الآن أمام مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم التى كُتب على بابها (وإنك لعلى خُلقٍ عظيم) ثم أخذ يذكر الموت، ويستشهد ببعض آيات الموت فى القرآن، وبعد لحظات صمت أخذ يتحدث بصوت هادئ عن ذلك الرجل الذى مات بالمسجد فى الأسبوع المنصرم ثم أخبرنا أن هذا الرجل كان من الإخوان وأنه تعرَّف عليه فى سجن القلعة عام ١٩٦٥، ثم تزامل معه فى سجن أبى زعبل وأخذ يحكى عن التعذيب الذى وقع على هذا الرجل وكيف أنه كان صابرًا ومحتسبًا، وكيف أن الله أحسن خاتمته فمات فى المسجد وأنه لذلك سيدخل الجنة دون عذابٍ أو حساب».

انتهت الخطبة وظلت ذاكرتى مشغولة بذلك الرجل الذى مات والتعذيب الذى وقع عليه، وقفز إلى ذهنى سؤالٌ أرَّقنى: لماذا سجن جمال عبدالناصر الإخوان؟ وما قصتهم معه؟ الشيخ يقول إن كل تهمتهم أنهم كانوا يقولون لا إله إلا الله! فهل هذه تهمة؟! كلنا نقول لا إله إلا الله، كل المسلمين يفعلون، فكيف يكون ذلك كذلك؟! ولم أجد أمامى إلاَّ أن أذهب إلى سور الأزبكية لأبحث عن كتب عن الإخوان، ولكنى لم أجد شيئًا، فلم يكن إعلام الإخوان قد بدأ فى الحركة بعد، كانوا لا يزالون يلملمون حاجياتهم ويخرجون من السجن ويبدأون فى ترتيب حياتهم، فقد كنا قد دخلنا إلى الأشهر الأولى من عام ١٩٧٤ ولم يكن أمامى من طريق للمعرفة إلا سؤال كبار السن من عائلتى، وكان أغرب ما سمعته هو قول أحد أعمامى إنه كان يسكن فى شقة بالدور الأرضى وأنه كان يغلق النافذة حينما يصلى حتى لا يراه أحد خوفًا من أن يشى به أحد الوشاة! مع أننى كنت أصلى معه فى المسجد أحيانًا عندما كان يأتى لزيارتنا، فهل كان يخاف من الصلاة فى بيته ولا يخاف من الصلاة فى المسجد؟! وتوالت الحكايات الغريبة من الناس وعادت بى الذاكرة لطفولتى الباكرة عندما كنت فى السادسة من عمرى وأنا أتحدث مع زميل لى فى المدرسة فقال: وطى صوتك الحيطة لها ودان! وحينما تعجبت من هذا القول وقلت له: وماذا ستفعل الحيطة عندما تسمعنا؟ قال لى: هاتقول لجمال عبدالناصر إننا إخوان!