رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد الباز يكتب: احتراف كشك وعدوية.. «والله ولعب الهوى»

الدكتور محمد الباز
الدكتور محمد الباز

- أول خطبة لـ«كشك» فى مسجد الطيبى كانت عن «العناية بتنقية دودة القطن» بتوجيه من «الأوقاف»
- عدوية أصبح نقطة فاصلة فى واقع الغناء المصرى بعد أغنية «السح الدح امبو»
- شهادة لـ«مأمون الشناوى»: «بقدر ما قالت الإذاعة لا لأغنيات عدوية بقدر ما قالت الجماهير له نعم»
- كشك اختار أن يجعل نفسه داعية الناس حتى لو كان يكذب عليهم ويضللهم


مفاتيح الدخول إلى مدينة كشك وعدوية كثيرة، أميل شيئًا ما إلى قراءة البدايات، فيها كثير مما ننتهى إليه، ومن بين البدايات التى يمكن أن تساعدنا على فك ألغاز نجمى الشارع الكبيرين، الواعظ عبدالحميد كشك والمغنى أحمد عدوية، بداية احترافهما الحقيقى.
غامر كشك ببدايات كثيرة قبل أن يصعد المنبر إمامًا وخطيبًا على مسئولية وزارة الأوقاف التى عينته وأصبحت مسئولة عنه، وأصبح هو مسئولًا منها، وعدوية مر على أفراح وبيوت وكباريهات وقعدات مزاج وحفلات كبار قبل أن يَصدر ألبوم فى السوق عليه اسمه وصورته.
لن أحيرك معى كثيرًا.
سأعود بك إلى العام ١٩٦٢، الشيخ كشك أصبح إمامًا وخطيبًا فى مسجد الطيبى بحى السيدة زينب، ظل لشهور ثلاثة إمامًا، دون أن يصعد إلى المنبر، وفى اليوم الذى ذهب فيه ليصعد المنبر ليلقى أول خطبة رسمية له، وجد مفاجأة فى انتظاره.
تقدم منه أحد العاملين فى المسجد، وأعطاه ورقة مغلقة فى يده، فناولها الشيخ إلى مرافقه ومساعده، ليستطلع ما فيها، ولما فضها وجد أمامه منشورًا رسميًا من وزارة الأوقاف ينبه بموضوع الخطبة التى يجب أن تكون لحث المصلين على العناية بتنقية دودة القطن، على اعتبار أن القطن ثروة ذات عائد اقتصادى للأمة.
وجد كشك نفسه فى ورطة، فموضوع الخطبة تسلمه قبل موعد صعود المنبر بنصف ساعة فقط، ولم يكن هذا وحده سبب الورطة، بل كان هناك ما هو أهم، فالمسجد الذى يخطب فيه كشك لا يصلى به إلا أهل الحرف والورش، فكيف يستقيم الأمر عندما يتحدث عن تنقية دودة القطن وهو يخطب فى مسجد بقلب القاهرة، ولا يجلس أمامه إلا تاجر أسماك أو جزار وجمهور عريض من متوسطى الثقافة، وبعضهم قد لا يعرف شيئًا عن زراعة القطن ولا دودته التى تهتم بها وزارة الأوقاف.
لا تتوقع منى أن أقول لك إن الشيخ كشك تمرد على توجيه وزارة الأوقاف، أو إنه وقف صارخًا فى المصلين قبل أن يصعد المنبر، ويقول لهم إن الوزارة تريد أن تفرض عليه ما سيتحدث فيه، وإنه لن يستجيب لهم.
نفذ كشك الأمر تمامًا، لأنه كان يعرف أن الخطبة التى سيلقيها يُكتب عنها تقرير تترتب عليه أمور تتعلق بصلاحيته فى الخطابة، وهى التقارير التى تحدد مستقبله فى المهنة.
وقبل أن تسألنى: هل ما تقوله حقيقى؟
هل وقف الشيخ كشك- أو أى شيخ غيره حتى- على منبر بالقاهرة ليقول للناس فوائد وأهمية تنقية دودة القطن؟
فعلها كشك بالطبع، ولكن بطريقة ملتوية، بدأ فى تفسير آيات من سورة «النحل» التى يعتبرها مؤسسة اقتصادية كاملة اشتملت على مصادر الإنتاج، ومنها تحدث عن الزرع والثمرات، القمح والشعير والأرز والذرة والقطن، وأهمية أن يحافظ المسلم على هذه النعم فلا يتركها مباحة للحشرات وأمراض النبات.
وحتى يؤكد الشيخ على التزامه الكامل بتوجيه وزارة الأوقاف قال نصًا فى خطبته: «ولما كان القطن ثروة من أغلى الثروات، كان على المسلمين أن يحموه من هذه الحشرات التى تفتك به».
لم يتخيل كشك بالطبع أن يكون حديثه عن دودة القطن فقط، فحاول تجويدًا من ناحيته أن يخطب أيضًا فيما يهتم الناس به، وفى نفس الخطبة قال ما يمكننا اعتباره تزيدا فى التعامل مع القرآن، وهو التزيد الذى لم يفارقه أبدًا فى خطبه ومواعظه حتى مات.
قال الشيخ: تنتقل بنا الآيات إلى مدينة قرآنية قامت فيها صناعات شامخة، فهذه مصانع الألبان «وإن لكم فى الأنعام لعبرة».. وتلك مصانع الحلوى «ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا».. وهذه مصانع العسل «وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلى من كل الثمرات فاسلكى سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن فى ذلك لآية لقوم يتفكرون».
الخطبة الرسمية الأولى للشيخ كشك تكشف لنا بعضًا من ملامحه، فرغم حرصه على أن يبدو صداميًا إلا أنه كان يقوم بمواءمات تجعله أمام الناس بطلًا، لكنه فى الوقت نفسه يلتزم بما يُطلب منه تمامًا، وربما ساعدته على ذلك موهبته التى لم تكن فى العلم ودراسة العلوم الشرعية فقط، ولكن فى الفهلوة والتعامل بمنطق أولاد البلد، الذين يفعلون ما يريدون دون أن يغضبوا أحدًا منهم.
تصرف كشك يشير إلى أننا بالفعل أمام فهلوى كبير، يعرف كيف يخرج من مأزقه، ولذلك كان مهمًا أن يتوفر له ملمح آخر وهو التزيد، أو ما يمكننا تعريفه بـ«الأفورة».. فقد كان من خطبته الأولى مبالغًا فى كل شىء، فلا يمكن أن يستخرج محلات الألبان والحلويات من القرآن إلا إذا كان يتعامل مع الأمر كله بخفة دم يجذب بها شعبًا خفيف الظل، ولا علاقة للأمر كله بقرآن أو تفسير أو وعظ.
تصرف الداعية الشاب يجعلنا نثق مبكرًا أننا أمام نجم جماهيرى سيعرف خلال مستقبله كيف يجعل الملايين تنصت له، وتسعى خلفه، وتصدقه، حتى لو كان كلامه بعيدًا عن المنطق، أو كان ما يصرخ به مناقضًا تمامًا لما استقر عليه الدين من أدب وأخلاقيات.
لم يكن الأمر لدى كشك، من ظاهر ما جرى له فى بدايات احترافه للخطابة، مرتبطًا بأنه عالم أو صاحب رسالة، ربما يكون كل ذلك تبلور لديه بعد سنوات، بعد أن أصبح نجمًا يتابعه الملايين، يمكن أن تعتبر كشك إلى روح الموظف أقرب.
فى مسجد الطيبى كان كشك يأنس إلى رواده، صور الأمر هو بما حاول أن يقرب بين ما فعله وما فعله الرسول مع صحابته الكرام، يقول فى مذكراته: لا أنسى الأوقات الطيبة التى كنت أقضيها مع إخوة فقراء تتخلل مجالسهم أذكار وصلوات على النبى المختار، لا يتحدثون بلغة البنوك أو تشييد القصور أو أنواع السيارات الفارهة، إنهم الذين قال فيهم الله لرسوله «واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا».
يواصل كشك رسمه لهذه الصورة، التى ستدلنا بعد قليل على ملمح آخر من ملامح شخصيته نسجتها بداياته، يقول: لقد كان الصادق المعصوم يبسط لهم رداءه- قاصدًا الفقراء- ويجلسهم عليه، ويقول لهم «مرحبًا بمن أوصانى ربى بهم خيرًا»، إن الجلوس مع الفقراء دواء للنفس، فيه الشفاء إذا ما تمردت النفس على قضاء الله وقدره.
ولك أن تتعجب من تصوير الشيخ لسلوكه، فليس لك أن تتحدث عن الزهد مثلًا، إلا إذا كنت تمتلك ما تزهد فيه من الأساس، لكن أن تقول عن نفسك زاهدًا دون أن يكون لديك ما تمنع نفسك عنه أو منه، فأنت بذلك تخاصم الواقع، فالشيخ كشك كان يجلس مع فقراء مسجد الطيبى كواحد منهم، ولم يكن يفعل ذلك من أرضية أنه يجالسهم حتى يداوى نفسه، ولذلك يمكن أن تضيف إلى تزيده، تزيدًا جديدًا فى تصوره عن نفسه وعن دوره.
بعد عامين من العمل فى مسجد الطيبى بدا الشيخ موظفًا كاملًا، لا مكان لرسالة ولا يحزنون، فقد طلب نقله إلى مكان آخر يكون قريبًا فيه إلى بيته، حتى يوفر لنفسه مالًا وعلى نفسه جهدًا.
خلال عامى «الطيبى» كان كشك قد حصل على تخصص التدريس، وهو شهادة أزهرية كانت تسمى «العالمية مع تخصص التدريس»، يستطيع الحاصل عليها أن يعمل مدرسًا فى الأزهر، لم يدخل كشك فصلًا فى معهد أزهرى، فقد فضل الاستمرار فى عمله إمامًا وخطيبًا، لكن بُعد مسجد الطيبى عن مسكنه أرهقه.
وزعت وزارة الأوقاف استمارات على الأئمة، وعلى من يرغب فى الانتقال إلى مسجد آخر أن يكتب طلبه، وكأنها كانت الفرصة التى ينتظرها الشيخ، فكتب فى استمارته رغبته فى الانتقال إلى «جامع الملك» بحى حدائق القبة.. لا لشىء إلا لأنه كان قريبًا من البيت الذى يعيش فيه لا تفرق بينهما سوى خمس دقائق فقط يقطعها مشيًا على قدميه.
كانت معاناة كشك مضاعفة، فهو الواعظ الفقير الذى يضطر لركوب مواصلات حتى يصل إلى المسجد، هذا غير ما يدفعه لمرافقه الذى يقرأ له ويساعده فى تجهيز خطبه، ثم تأتى المعاناة الكبرى التى كان يجدها من مفتشى الأوقاف.
جملة واحدة كان يكتبها أحد مفتشى الأوقاف فى دفتر الأحوال تنغص على كشك حياته: «مررت بعد العصر والإمام غير موجود ولم يعتذر عن عدم الحضور، وعليه الحضور إلىّ للتحقيق معه».
ولأن كشك كان يعيش بعيدًا عن مسجد الطيبى، فقد كان يتأخر كثيرًا، ولذلك عندما انتقل إلى «جامع الملك» بحى القبة، اعتبر نفسه حقق انتصارًا كبيرًا ليس على مفتشى الأوقاف فقط، ولكن على الحياة نفسها.
لم تكن المنغصات فى حياة عدوية كثيرة، ربما لأنه وجد من يرى فيه نجمًا قادمًا، ليس لروعة صوته ولا تمكنه من أدواته كمطرب، ولكن لأن ما لديه يناسب مزاج المرحلة الجديدة التى دخلها المصريون على جناحى الهزيمة.
لن يضايقكم إذا عدنا للبداية الاحترافية لأحمد عدوية مرة أخرى، وهى محطة لا يزال يقف فى قلبها الشاعر الغنائى الكبير مأمون الشناوى.
فى النصف الأول من السبعينيات كان مأمون لا يزال مستشارًا لشركة «صوت الحب».
قلت لكم ذلك قبلا.
عندما أسس عاطف منتصر هذه الشركة اتفق مع مأمون الشناوى على أنه لا بد من الاعتماد على الأصوات الكبيرة والمحبوبة، فأنتجت الشركة ألبومًا غنائيًا للسيدة شادية، وآخر للمطربة الكبيرة فايزة أحمد، ونجحت أغنيات الألبومين بلغة السوق، لكنها لم تفرقع أو تكسر الدنيا كما يقولون، فلم تكن مبيعاتهما بأعداد تذكر.
راحت أموال عاطف منتصر، لكنه لم يعاتب مأمون الشناوى أو يتهمه بشىء، فقد أنتج لشادية وفايزة أحمد، فمن أين يأتى بمطربات فى شهرتهما أو جماهيريتهما حتى يربح؟.
أخذ عاطف منتصر، مأمون الشناوى، وذهب إلى والده الذى كان يملك كثيرًا من المال، وبدلًا من أن يمد لهما يده، قال لهما: «لقد ساعدتكما فى البداية، وليس عندى لكما مليم واحد، ولا بد أن تعتمدا على نفسيكما».
وضع القدر عدوية فى طريق مأمون الشناوى، وكأنه كتب له الرزق فى أحباله الصوتية، تحمس الشاعر الغنائى الكبير لمطرب الكباريهات الذى وجد تجاوبًا هائلًا من الجمهور معه، فقرر أن يكون بطله ومنقذه فى آن واحد، راهن عليه بكل خبرته.. قد يكون تخوف بعض الشىء، لكنه مضى فى مغامرته إلى نهايتها، وكان لابد له أن يمضى، الذين يخافون من المغامرة لا تمنحهم الحياة شيئًا.
هنا يظهر لنا منغص من منغصات الحياة، كان كفيلًا وحده بأن يقضى على مستقبل عدوية، أو على الأقل يجعل منه مجرد مطرب شعبى مر على الأفراح والكباريهات وانتهى الأمر كله.
لم يتحمس له عاطف منتصر، صاحب رأسمال شركة «صوت الحب»، كان يريد أن يتمسك بمبدئه وهو ألا ينتج إلا للمطربين الكبار المعروفين فقط، هذه المرة لام مأمون الشناوى وعاتبه على مجرد تفكيره فى عدوية، قال له نصًا: هيروح فين ده جنب فايزة وعبدالحليم وشادية.
اعترف مأمون الشناوى بعد سنوات من هذه الواقعة أن وجهة نظر عاطف منتصر كانت صحيحة مائة بالمائة، لكن وجهة نظره هى كانت مستقبلية، ولأنه لا أحد يستطيع أن يخمن على أى حال سيستقر المستقبل، فكان لا بد من التجربة، التى بناها مأمون على أن زمن التطريب ولَّى أو على الأقل سيتراجع، ولن يكون هناك إلا الأداء فقط، وكان عدوية هو بطل هذا اللون القادم.
كان مأمون الشناوى متسقًا مع نفسه جدًا، بعد أن سمع كلمات أغنية «السح الدح امبو»، قال لعدوية نصًا: بس.. هى دى الغنوة اللى إحنا عاوزينها، روح هات الفرقة وادخل الاستديو بكرة.
سجل عدوية أغنيته، ونزلت السوق، وأعود لنص ما قاله مأمون: عينك ما تشوف إلا النور، نجاح إيه وضجة إيه وإقبال لا مثيل له، وقلت: سبحان مغير الأحوال.
هل كان عدوية بأغنيته «السح الدح امبو» نقطة فاصلة فى واقع الغناء المصرى؟، كان كذلك بالفعل، فقبل أغنيته كانت أغنيات المشاهير من المطربين لا تجد من يشتريها، ثم جاءت «السح الدح» لتقلب الموازين بالشركة وفى سوق الكاسيت كله رأسًا على عقب، فبعد أن كانت الشركة شبه مهجورة أصبحت كما خلية النحل بالضبط، وكان مكتب الشركة فى الدور الرابع، وكان التجار الذين يريدون الشريط يقفون طابورًا بطول السلم ويمتد بهم حتى نهاية الشارع.
لم يكن هذا هو الانقلاب الوحيد الذى أحدثه عدوية باحترافه الغناء عبر الكاسيت، فقبله كانت الإذاعة ومن بعدها التليفزيون الباب الملكى الوحيد لظهور أى أصوات جديدة، سواء كانت جيدة أو رديئة، لكن بعد أن أطل ابن الشارع الأسمر لم يعد الأمر على ما كان عليه.
قبل عدوية كان يمكنك أن تغنى فى الكباريهات وتصبح ملكًا متوجًا على عرشها، ويمكن أن تغنى فى الأفراح وتتحول إلى نجمها الأوحد، وتحصل من أصحابها على ما تريد، لكن ولأنك لم تصل إلى الإذاعة أو التليفزيون، فلا يمكن لأحد أن يعترف بك، أو يمنحك صك اعتراف بكونك مطربًا.
كسر عدوية هذه القاعدة ببساطة شديدة ودون أن ينتبه هو نفسه للزلزال الذى أحدثه.
اعترف به الشارع مطربًا شعبيًا من خلال الكاسيت فقط، وكان الأمر طبيعيًا، فلا يستطيع هذا الشارع مهما كان متعاليًا أن يتعالى على مطرب توزع شرائطه أكثر من مليون نسخة.
هل يمكن أن نقول إن عدوية استفاد من سقوط مصداقية الإعلام الرسمى بعد نكسة ١٩٦٧؟
أغلب الظن أن هذا حدث تمامًا.
من أين وصلنى هذا المعنى تحديدا؟
فعلها مأمون الشناوى أيضًا، الذى يبدو أنه ليس مسئولًا عن تصنيع عدوية فقط، ولكن يمكن أن نعتبره معينًا لنا فى فهم هذه الظاهرة بما لها وما عليها.
فصل الشناوى خطابه عن عدوية كظاهرة، قال عنه: بقدر ما هوجم عدوية بقدر ما انتشرت أغنياته، وبقدر ما قالت الإذاعة لا لأغنياته، بقدر ما قالت الجماهير نعم لذات الأغنيات، وفى لحظة قدرية أصبح عدوية نجمًا غير معترف به على المستوى الرسمى، ومعترفًا به على مستوى الشارع والرصيف والأزقة والحوارى، ولم يكن شىء من هذا يزعجه أبدًا، فقد كان يعرف أن ساكنى الشوارع والأزقة والحوارى هم جمهوره الحقيقى، أما الجمهور الذى يرفض فهو بالكاد يريد أن يراه أو يسمعه ليسخر منه.
وكما أفاد حائط الثقة الذى تهدم فى الإذاعة الرسمية عدوية فى قبوله شعبيًا، ساهم كذلك حائط ثقة آخر بعد أن تهدم، وكانت الثقة هذه المرة فى المثقفين والكتاب والنقاد والأدباء الكبار، فهؤلاء لم يتركوا شاردة ولا واردة فيما قدمه عدوية إلا وأهالوا عليه التراب، وبدلا من أن يستمع الناس إلى هؤلاء، وجدوهم يرفعون التراب من على جبين مطربهم الجديد، فقد اعتبروه الصادق، وما دونه مجموعة من الكذبة.
كانت الأرض ممهدة لعدوية تمامًا، وأعتقد أنها كانت ممهدة لعبدالحميد كشك بنفس الدرجة، فلم تكن المنغصات التى وقفت فى طريقه إلا منغصات بسيطة وبلا قيمة استطاع أن يتجاوزها سريعًا، ودون جهد، ولم يكن بعيدًا عن فعل الأقدار نقلها إياه إلى مسجد «جامع الملك» بحدائق القبة، فقد بدأت شهرته من هناك، وبدأ الناس ينصرفون إليه بعد أن فقدوا الثقة فى شيوخ لم يكن لديهم شىء يقدمونه، أو لأنهم كانوا شيوخ سلطان أكثر منهم شيوخ شارع، وهو ما فطن إليه كشك تمامًا، فقد اختار أن يجعل نفسه داعية الناس، حتى لو كان يكذب عليهم ويضللهم، وهو ما فعله كثيرًا.. وكثيرًا جدًا.
الإفراط فى الحديث عن الظرف العام الذى خدم كشك وعدوية، لا يعنى أبدًا أنهما لم يكونا على قدر هذا الظرف، فكل منهما كان ابن بلد، وبقدر ما منحته الدنيا، كان هو يستحق تمامًا.