رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

غياب الميكيافيلية عن التجربة الإسلامية.. قصة ظهور «مبدأ التقية»

د.محمود خليل
د.محمود خليل

- التاريخ الإسلامى يؤكد تنكر من يفوز فى سباق السلطة لمن عاونوه

السلطة لها أحكامها، والصراع على الحكم له قوانينه وقواعده «الميكيافيلية»، وأبسطها أن يتنكر من يفوز فى سباق السلطة لمن عاونوه على الوثوب إليها، ذلك ما تحكيه تجربة أبوالعباس السفاح الذى خلف إبراهيم الإمام فى قيادة العباسيين مع أبى سلمة الخلال الذى لعب الدور الأكبر فى نشر الدعوة الشيعية للعباسيين فى العراق.

«الخلال» كان علوى الهوى، ولو أنه تمكن من إقناع أحد كبار العلويين من حفدة الحسن والحسين بالمجىء إلى العراق وتسلطوا على الأمر، وقد كاد فى لحظة أن ينجح فى ذلك، فلربما تبدلت المواقع وقتل «الخلّال» «السفاح»!. والأمر نفسه ينطبق على «أبومسلم الخراسانى» الذى قُتِل على يد أبى جعفر المنصور، فقد تلكأ فى بيعته، واتكل على جنده وأشياعه من أهل خراسان، وكان ذلك مصدر قلق لـ«المنصور»، فالقوة التى يتمتع بها وكثرة الأشياع والأتباع جعلتاه منافسًا خطيرًا على السلطة، وما كان للمنصور أن يتركه هكذا حتى يستفحل أمره، لذلك سعى إلى التخلص منه.

كأنها لغة واحدة لا يجيد فرقاء السلطة - فى المراحل المبكرة من تاريخ المسلمين- غير التعامل بها، هى لغة الدم، والتخلص من رفقاء الأمس بعد أن دانت لهم الأمور اليوم. لم يجد العباسيون بدًا أيضًا من التنكر للفكرة التى منحتهم وهجًا جماهيريًا، والمتمثلة فى الدعوة لأهل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم، وأحقيتهم بالخلافة، وجدارتهم بتأسيس الدولة الديانة التى تستند إلى قيم العدل والإصلاح. ولم يكن لهم عن ذلك محيص حتى يقدموا الذريعة الأدبية والأخلاقية التى تساعدهم على تحقيق هدفهم فى الوصول إلى الحكم ثم التخلص من «الحزب العلوى» فى خطوة تالية.

بمجرد تولى العباسيين السلطة نظروا إلى العلويين نظرة ريبة وشك، على اعتبار أنهم منافسون لهم فى السلطة، فى حين رأى العلويون العباسيين مغتصبين للسلطة. وهنا بدأت رحلة انقسام داخل البيت الهاشمى نفسه، وبين طرفين يفترض فيهما التشيع، لكن العباسيين حسموا الأمر منذ اللحظة الأولى عندما اعترفوا بخلافة الراشدين الأربعة، وأعلنوا أنهم عادوا فقط «بنى أمية»، خلافًا للعلويين الذى يرون أن عليًا كان حقيقًا بالخلافة بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم. كان العلويون يعانون التشتت وتعدد القيادات والرءوس، الأمر الذى أجهض أى محاولات يمكنهم القيام بها لمناوأة العباسيين، وكانت ثورة محمد بن عبدالله بن الحسن الملقب بـ«النفس الزكية» هى أبرز حركة قام بها العلويون ضد أبى جعفر المنصور، حين حاولوا تدبير محاولة لاغتياله فى موسم الحج عام ١٤٠ هـ، لكنهم فشلوا فقبض الخليفة على كل أبناء العلويين من الفرع الحسنى (أحفاد الحسن بن على) وعذبهم تعذيبًا شديدًا، وأمام ذلك اضطر «محمد النفس الزكية» إلى إعلان الثورة على العباسيين من المدينة المنورة، فسيطر على المدينة، ثم خلع الوالى العباسى على مكة وأحل غيره محله، لكن سرعان ما استطاع المنصور إخماد ثورته عبر تجريد حملة إلى المدينة تمكنت من قتله!. وتواصلت ثورات الشيعة على حكم الخلفاء الذين أعقبوا أبا جعفر المنصور، ولكنها لم تكن ذات خطر على الدولة قياسًا بخطر الثورات التى قام بها الخوارج.

ومع تنكر العباسيين للعلويين بدأ «التشيع» يأخذ منحى مختلفًا تمام الاختلاف عما كان فى السابق. ففى البداية كان الزعماء الذين يلتف حولهم الشيعة يقيمون دعاواهم على أساس القرابة من النبى، صلى الله عليه وسلم، أكثر من الادعاء بأنهم من نسله المباشر عن طريق فاطمة الزهراء، رضى الله عنها، واختلف الأمر بعد خيانة العباسيين لهم فركز الشيعة آمالهم فى نسل على بن أبى طالب، وبالذات هؤلاء الذين انحدروا من نسل فاطمة، وتدعمت فكرة أنه منذ وفاة النبى لم يكن هناك فى الواقع سوى خط واحد من الأئمة الشرعيين. وهؤلاء هم على وابناه الحسن والحسين ونسل الحسين من ابنه على زين العابدين الناجى الوحيد من مذبحة كربلاء. وفيما عدا الحسين امتنع هؤلاء الأئمة عن النشاط السياسى، وفى الوقت الذى كان هناك مطالبون آخرون بالخلافة يدفعون أرواحهم ثمنًا لمواجهة الحكام، فضّل الأئمة الشرعيون أن يقوموا بالمعارضة القانونية للخلفاء. وقد أخذ هذا التصرف من جانب الأئمة تفسيرًا شرعيًا من جانب الشيعة تبلور حول مبدأ «التَّقِيَّة» وهو يشير إلى نظرية إسلامية للإعفاء وفكرتها أنه فى حالة الإرغام أو الخطر يمكن إعفاء المؤمن من بعض التزاماته الدينية، وقد استخدم هذا المبدأ فى تبرير إخفاء المعتقدات التى يحتمل أن تثير غضب السلطات أو الجماهير.